د / أحمد عبد الحميد عبد الحق *
الحمد
لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم الأنبياء
والمرسلين ، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين.. وبعد ..
فقد
انتهى بنا الحديث في الحلقة السابقة عند بيعة العقبة الثانية وبنودها ،
ونكمل حديثا بعون من الله عز وجل فنقول : إنه وبعد أن فرغ الناس من أداء
مناسك الحج عاد الأنصار الذين بايعوا رسول الله بيعة العقبة الثانية إلى
ديارهم ؛ ليعدوا المدينة لتكون مأوى للمضطهدين المسلمين بمكة ، ومنطلقا
لدعوة لله إلى سائر أنحاء المعمورة ، وعاصمة للدولة الإسلامية التي نذروا
حياتهم لإقامتها ، وبعد أن اطمأن رسول الله على أنهم سووا أمورهم بيثرب ،
قال لمن معه من المسلمين في مكة : إن الله عز وجل قد جعل لكم إخوانا
ودارا تأمنون بها ، فاخرجوا إلى يثرب .
فخرجوا
مستخفين فرادى وجماعات ؛ كي لا يعلم بهم أحد من مشركي قريش ، تاركين
وراءهم أموالهم وأمتعتهم ، إلا ما خف منها وسهل حمله ، وهجروا منازلهم
مفتحة ، تعصف بها الريح ، تثير شجن كل من ينظر إليها إلا غلاظ الأكباد من
طغاة الكافرين ، الذين لم يكتفوا بفرار أهلها منها ، وإنما سطوا عليها ،
وباعوها كأنها ملك لهم ..
ولما
بلغ المهاجرين ما فُعل بديارهم شكوا لرسول الله ذلك ، فلم يرد عليهم بقوله
:إنها ستعاد إليهم فيما بعد ، وإنما قال : ألا ترضون أن يعطيكم الله بها
دارا خيرا منها في الجنة ؟ قالوا : بلى ؛ قال : فذلك لكم
.
ونحن
ـ المسلمين ـ في العصر الحديث لن نستطيع أن نعيد المجد الذي أسسه رسول
الله ومن معه إلا بتلك التربية ، أقول ذلك وأنا أحس أنه صعب علي ( كاتب هذه
السطور) قبل أن يكون صعبا على غيري .
ولم
يقتصر المهاجرون على التضحية بأموالهم وديارهم ، وإنما اضطر بعضهم إلى ترك
كل شيء حتى أهله وأولاده ، وخرجوا تعلوهم مشاعر الحزن والفرح في آن واحد ،
حزن على فراق الأحبة وترك الوطن الذي نشئوا وترعرعوا فيه ، وهي مشاعر لا
يحسها إلا من عاشها ، وفرح لأن الله جعل لهم مخرجا من بين الطغاة ، وهيأ
لهم أرض صدق يعبدون الله فيها وهم آمنون ، وأصحابا يحبونهم ويؤثرونهم على
أنفسهم ، حتى كان أحدهم يقول لصاحبه : إن لي بيتين فاختر أحدهما أعطه
لك...
أما
هو صلى الله عليه وسلم فقد مكث وأبو بكر الصديق بمكة بقيّة ذي الحجّة
والمحرّم وصفر حتى اطمـأن إلى خروج كل أصحابه ، ولم يبق إلا نفر قليل حبسهم
قومهم ، وحالوا بينهم وبين الهجرة.
ويبدو
ـ والله أعلم ـ أنه كان عازما على عدم الخروج حتى يتأكد من خروجهم جميعا ،
لولا أن مشركي قريش عاجلوه ، وأجمعوا على قتله أو حبسه ، حيث اجتمعوا في
دار تسمى " دار الندوة " وقالوا فيما بينهم : إننا والله ما نأمنه على
الوثوب علينا بمن اتبعه من غيرنا ، وقال بعضهم: لكأنه قد كرّ عليكم بالرجال
، فأثبتوه( أي اسجنوه) أو اقتلوه حتى لا يتمكن من الالتقاء بأصحابه في
المدينة ، فأخبره الله بمكرهم ، وأنهم اتفقوا على قتله ليلا ، وأمره ألا
يبيت في بيته الليلة القادمة (1)..
فخرج
صلى الله عليه وسلم حتى أتى أبا بكر في وقت الظّهيرة ، فقيل لأبي بكر: هذا
رسول الله مقبلاً متقنّعاً في ساعة لم يكن يأتي فيها ، فقال أبو بكر: فداء
له أبي وأميّ ، أمّا والله إن جاء به في هذه السّاعة إلاّ أمر ، فلما
استأذن ودخل عليه قال: قد أذن لي في الخروج ، ثم اتفق معه على أن يأتيه
ليلا ، فأمر أبو بكر أهل بيته بأن يجهزوه سريعا ، ويعدوا له رحله وما
يحتاجانه من زاد ، ثم خرج يبحث عن دليل ماهر يرشدهما إلى طريق آمن في
هجرتهما ، وبعد أن اتفق معه دفع إليه راحلتين كان قد أعدهما لذلك من قبل ،
وواعده غار ثور بعد ثلاث ليال (2) وهو الغار الذي اتفق مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم أن يختفيا فيه قبل أن يبدأ السفر ، ويقع هذا الغار في جبل
بأسفل مكة في الاتجاه المخالف لطريق المدينة ، على بعد خمسة أميال من مكة
القديمة ، وهو جبل شامخ ، وَعِر الطريق ، صعب المرتقى ، ذو أحجار كثيرة.
وأما
رسول الله فقد عاد إلى بيته ، واتفق مع ابن عمه علي ابن أبي طالب على أن
يؤخر هجرته حتى يؤدي الودائع التي كانت عنده للناس ( لأنه صلى الله عليه
وسلم لم يكن بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده ، لما يُعلم من
صدقه وأمانته) (3) ثم يلحق به بعد ذلك.
وخرج
صلى الله عليه وسلم آخر الليل من خلف بيته كي لا يحس به أحد من المشركين ،
وترك عليا نائما في فراشه ؛ ليوهم من يتصنتوا عليه أنه مازال نائما فلا
يتبعوا أثره ، وطمأن عليا بأنه لن يناله منهم مكروه ، وقد كانوا ينتظرون
خروجه للصلاة بالمسجد الحرام ليلا ، فيقتلوه في الظلام كي لا يعرف قاتله.
واصطحب
أبا بكر إلى الغار المتفق عليه ، واختفيا فيه ثلاث ليال ، سعى فيها مشركو
مكة كل السعي في العثور عليهما ، وبثوا عيونهم في كل مكان ، واستعانوا
بخبراء الأثر من الأعراب في تتبع أثر أقدامهما ، حتى وصلوا إلى الغار أو
قريبا منه ؛ لكن الله عمّ عليهم ، وصار أبو بكر يقول : يا رسول الله لو أن
أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه (4) فقال : يا أبا بكر ما ظنك
باثنين الله ثالثهما ، يا أبا بكر لا تخف إن الله معنا ، ثم قام يصلي ، وقد
كان عليه السلام إذا أحزنه أمر قام فصلى ، فوقوفه أمام الله كما ذُكر من
قبل كان يُصغّر في عينه كل عظيم.
وسجل
الله في القرآن الكريم هذا المشهد في قوله تعالى " إلا تنصروه فقد نصره
الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا
تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة
الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم "(5) ليعلم
المؤمن أن معية الله تحفظ من كل سوء ، وتحمي من كل عدو ، وأن هذه المعية
تحصل للمؤمن بالوقوف أمامه سبحانه وتعالى ، وبالتضرع إليه في الصلاة .
وخلال
الأيام الثلاثة التي مكثا فيها في الغار كان عبد الله بن أبي بكر يطوف
بمكة يتسمع الأخبار ، وما يقوله المشركون في شأنهما ، ثم يأتي إليهما بما
سمع من أخبار دون أن يشعر به أحد، ويتبعه خادم أبي بكر الصديق "عامر بن
فهيرة "بالغنم ليخفي آثار أقدامه ، حتى إذا اطمأنا إلى أن الطلب قد هدأ خرج
بهما الدليل تجاه ساحل البحر الأحمر ، ثم صار بهم في طريق غير مألوف .
وقبل
أن يتحركوا التفت رسول الله -صلّى الله عليه وسلَّم- إلى مكة ، وأخذ ينظر
إليها ويقول في شوق: ما أَطيبَكِ من بلدٍ وأَحبَّكَ إلي! ولولا أنَّ قومكِ
أخرجُوني منكِ ما خرجتُ، ثم ابتهل إلى الله تعالى بالدعاء فقال: الحمد لله
الذي خلقني ولم أكُ شيئاً، اللَّهمَّ أَعِنِّي على هَوْلِ الدنيا، وبوائق
الدهرِ، ومصائبِ اللَّيالي والأيامِ، اللَّهُمَّ! اصحبني في سفري،
واخلُفْني في أهلي، وبارِكْ لي فيما رَزَقتني، ولكَ فَذلِّلْني، وعلى صالحِ
خُلُقي فقَوِّمْني، وإليكَ رَبِّي فحببني، وإلى الناس فلا تكلني، رب
المستضعفين وأنت ربي، أعوذ بوجهك الكريم الذي أشرقت له السماوات والأرض،
وكشفت به الظلمات، وصَلُحَ عليه أمر الأولين والآخرين أن تُحِلَّ عليَّ
غضبك، وتنزِلَ بي سخَطَك، أعوذُ بكَ من زَوالِ نِعمتكَ، وفَجاءةِ نِقمتك،
وتحَوُّلِ عافيتِك، وجميع سَخَطِكَ، لك العُتْبَى حتى ترضى ولكن عافيتك
أوسع عندي، ولا حولَ ولا قوَّة إلا بك " .
وقد
أشار القرآن إلى إن تضرع رسول الله في تلك الأوقات كان بأمر من الله تعالى
وذلك في قوله " وقل رب أخرجني مخرج صدق وأدخلني مدخل صدق وأجعل لي من لدنك
سلطانا نصيرا" فمن في مثل حاله من المطاردة ينبغي أن يكون دائم الاستغاثة
بالله تعالى.
ولما
عجز المشركون عن العثور عليهما أذاعوا في سائر القبائل العربية المحيطة
بمكة أن من عثر على محمد أو دل عليه فله مائة ناقة ، فجن جنون الأعراب
لسماع هذا الخبر ، وبدأت الأحلام تراود الكثير منهم بأنه سيصبح من أثرى
الأثرياء لو فاز بتلك المكافئة ، فانطلقوا في كل اتجاه، وهم أهل خبرة بسبل
الصحراء ، حتى رآهما أعرابي من قبيلة تسمى " بني مُدْلج" فجاء إلى قومه
وهم جلوس، فقال ، إني رأيت آنفًا أسْوِدَة بالساحل، أراها محمدًا
وأصحابه.
فسمعه
رجل يسمى " سراقة" فطمع في المكافئة دون غيره ، فقال له: إنهم ليسوا
بهم، ولكنك رأيت فلانًا وفلانًا انطلقوا بأعيننا، وذلك حتى يضلله ولا يخبر
أحدا غيره ،ثم انطلق يريد اللحاق بهما حتى إذا دنا منهما وسمع قراءة رسول
الله -صلّى الله عليه وسلَّم- عَثَرَتْ به فرسه فخر عنها، فقام وركبها حتى
إذا دنا منهما مرة أخرى وسمع قراءة رسول الله عَثَرَتْ به وسقط من فوقها ،
وأبو بكر يكثر الالتفات إليه ، والرسول غير عابئ .
فلما
ركبها في المرة الثالثة غاصت أرجلها في الأرض كما حكى سرقة نفسه ، وخرج من
تحتها دخان كالإعصار ، وعلم حينئذ أن رسول الله محفوظ من ربه ، وأنه لن
يستطيع أن يصل إليه بسوء ، فناداه بالأمان وقال له: إن قومك قد جعلوا
فيك الدية، وأخبره بما يريد الناس به، وعرض عليه المساعدة فلم يسأله شيئا
غير أنه قال له: أَخْفِ عنا .
وقول
رسول الله له " أَخْفِ عنا" لم يكن سوى التزام منه بسنن الكون ، والأخذ
بالأسباب ، وإلا فكما عجز هذا الرجل ومن وصلوا إليه في الغار عن النيل منه
سيعجز غيره، وكان صلى الله عليه وسلم يعلم هذه الحقيقة جيدا ؛ لأن الله
سبحانه وتعالى أخبره قبل أن يستعد للهجرة بأن مكر أعدائه لن يكون شيئا أمام
حفظ الله ، فقال تعالى : " ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين " بل إن
الله تكفل له بحفظه قبل أن يأمره بإعلان الدعوة على الملأ ، فقال تعالى : "
والله يعصمك من الناس " .
وأحسب
ـ والله أعلم ـ أن رسول الله حرص على الحيطة والحذر والأخذ بكل الأسباب ؛
ليبدو أمام الناس ببشريته التي يريد الله للناس أن يسيروا عليها ويقتدوا
به ، فهو نموذج قدمه الله تعالى للبشرية ليحتذوه، وليرفع عنه القداسة التي
قد يظنها بعض الناس ، وذلك لأمرين :
الأول : أن رسول الله نشأ في بيئة عبد الناس فيها كل ما تخيلوا فيه النفع أو الضر، ورفعوه إلى مرتبة الألوهية .
والثاني
: أنه صلى الله عليه وسلم بُعث بعد عيسى عليه السلام الذي أدى الغلو فيه
إلى وقوع أكثر البشرية ـ وإلى الآن ـ في مشاكل عقدية في منتهى الخطورة ،
وذلك بسبب سوء تفسير بعض الناس للآيات التي أُيد بها مثل " إحياء الموتى "
"وشفاء المرضى" .
وقد
زجر صلى الله عليه وسلم من أراد أن يرفعه فوق مكانته البشرية بقوله : " لا
تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم ، فإنما أنا عبد ، فقولوا : عبد
اللّه ورسوله(6) ".
ومع
ذلك فقد أكد الله على أن الأخذ بالأسباب ليس منتهى كل شيء ، فهناك معيته ،
وهناك مشيئته ، إذ نجح المطاردون له في الوصول إليه في أكثر من موطن ،
وكادت أيديهم أن تصل إليه لولا تلك المعية وهذه المشيئة .
وانتهى
بذلك الفصل الأول من حياته الدعوية ليبدأ بذلك مرحلة جديدة ، ألا وهي
مرحلة تأسيس الدولة ، والسير بها في خضم الضلال الذي يحيط بها ، ويواجه بها
كل خطر يهددها ، فلنعش معها في المقالات التالية ، ونتلمس فيها خطاه صلى
الله عليه وسلم ؛ كي نستطيع أن نواجه مشاكل الحاضر كما واجه رسول الله ومن
معه من المسلمين صعوبات الماضي .
وإلى لقاء آخر إن شاء الله إن كان في العمر بقية وفي الصحة متسع .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
*مدير موقع التاريخ الالكتروني
1ـ الذهبي : تاريخ الإسلام ج1 ص89
2 ـ الذهبي : تاريخ الإسلام ج1 ص89
3 ـ ابن هشام : السيرة ج3 ص 11
4 ـ ابن كثير : البداية ج3 ص271
5 ـ سورة " التوبة" : الآية رقم 40
6 ـ رواه مالك والبخاري وأحمد
المصدر : موقع التاريخ