د / أحمد عبد الحميد عبد الحق *
الحمد
لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم الأنبياء
والمرسلين ، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين.. وبعد ..
فقد
تحدثت في الحلقة السابقة عن رحلة الإسراء والمعراج التي زادت النبي صلى
الله عليه وسلم يقينا على يقينه ، وجعلته يقبل على دعوته بكل ثقة واطمئنان
على تحقيق موعود الله سبحانه وتعالى له رغم كل المعوقات التي وضعها زعماء
المشركين في طريقه ، وأكمل حديثي ـ بعون من الله ـ فأقول : إنه ـ صلى الله
عليه وسلم ـ لم يمكث كثيرا بعد عودته من رحلة المعراج حتى حلّ عليه موسم
الحج الذي اعتاد أن يطوف على الناس فيه ، فشمر صلى الله عليه وسلم عن ساعد
الجد ، وصار لا يسمع بقادم من العرب له اسم وشرف إلا وأقبل عليه ودعاه إلى
ربه ، وعرض عليه ما أرسله الله به ، وغدا يقول لكل من يلقاهم من أفواج
العرب : يا بني فلان ! إني رسول الله إليكم ، آمركم أن تعبدوا الله ولا
تشركوا به شيئا ، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد ، وأن
تؤمنوا بي ، وتصدقوا بي ، وتمنعوني حتى أبين عن الله ما بعثني به .
ويقول : لا أُكره أحدا منكم على شيء ، من رضي منكم بالذي أدعوه إليه فذلك له، ومن كره لم أُكرهه .
ومع
شدة حرصه على جذب الناس إليه لم يشأ أن يسلك غير سبيل الدعوة إلى الإيمان
المجرد من كل مصلحة دنيوية ، ولم يجعل لمن عرض عليه اتباعه سوى الوعد بجنة
الله سبحانه ، فقد أتى على قوم يسمون " بني عامر" فقال له سيدهم : أرأيت إن
نحن تابعناك في أمرك هذا ثم أظهرك الله على من يخالفك ، أيكون لنا الأمر
من بعدك ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : الأمر لله يضعه حيث يشاء ، فقال له :
أفنعرض نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا ، لا حاجة لنا
بأمرك (1)...
لم
يقبل رسول الله من هؤلاء الإسلام المشروط بمكاسب الدنيا ؛ لأن الله يريد
من المسلم أن تكون عبادته له خالصة من كل شائبة ، ولا ينتظر على إسلامه
أجرا ، وقد يمكن الله للمسلمين في الأرض ، ويفتح لهم الدنيا ، وقد فتحها
على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، ورزقهم من حيث لم يحتسبوا ، ولكن ما
كان ذلك في ذهن أحدهم يوم إسلامه ، بل كان أمل كل واحد منهم أن يرضى الله
عنه .
وأتى
على قوم من أهل اليمن ممن جاوروا الفرس ، فقالوا : له إلامَ تدعو ؟ فقال
صلى الله عليه وسلم أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ،
وأني رسول الله ، وأن تؤووني وتنصروني حتى أؤدي عن الله الذي أمرني به ،
فان قريشا قد تظاهرت على أمر الله ، وكذبت رسوله ، واستغنت بالباطل عن الحق
، والله هو الغني الحميد ، فقال له أحدهم : وإلامَ تدعو أيضا يا أخا قريش
؟.
فتلا
رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه قوله تعالى :" قل تعالوا أتل ما حرم
ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا " (2) إلى قوله : ذلكم
وصاكم به لعلكم تتقون فقال له : وإلامَ تدعو أيضا يا أخا قريش ؟ فوالله ما
هذا من كلام أهل الأرض ، ولو كان من كلامهم لعرفناه ، فتلا رسول الله صلى
الله عليه وسلم" إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن
الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون" (3) فقال له : دعوت والله يا
أخا قريش إلى مكارم الأخلاق ، ومحاسن الأعمال ، ولقد أفك( قالوا بهتانا )
قوم كذبوك وظاهروا عليك (4) .
وأشار
إلى رجل آخر منهم يسمى " هانئ بن قبيصة "وقال : وهذا هانئ بن قبيصة شيخنا
وصاحب ديننا ، فرد عليه هانئ هذا قائلا : قد سمعت مقالتك يا أخا قريش ،
وصدقت قولك ، وإني أرى إن تركنا ديننا واتبعناك على دينك لمجلس جلسته إلينا
ليس له أول ولا آخر ، ولم نتفكر في أمرك وننظر في عاقبة ما تدعو إليه فإن
هذا زلة في الرأي ، وطيشة في العقل ، وقلة نظر في العاقبة ، وإنما تكون
الزلة مع العجلة ، وإن من ورائنا قوما نكره أن نعقد عليهم عقدا ، ولكن ترجع
ونرجع وتنظر وننظر.
والتفت
إلى رجل ثالث أحب أن يشركه في الكلام يسمى "المثنى بن حارثة " فقال :
وهذا المثنى شيخنا وصاحب حربنا ، فقال المثنى : قد سمعت مقالتك ، واستحسنت
قولك يا أخا قريش ، وأعجبني ما تكلمت به ، والجواب هو جواب هانئ بن قبيصة ،
وإنا إنما نزلنا بين صريين ، أحدهما اليمامة ، والآخر السماوة .
فقال
له رسول الله صلى الله عليه وسلم : وما هذان الصريان ؟ فقال له أما أحدهما
: فطفوف البر وأرض العرب ، وأما الآخر فارض فارس وأنهار كسرى ، وإنما
نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى ، أن لا نحدث حدثا ، ولا نؤوي محدثا ، ولعل
هذا الأمر الذي تدعونا إليه مما تكرهه الملوك ، فأما ما كان مما يلي بلاد
العرب فذنب صاحبه مغفور ، وعذره مقبول ، وأما ما كان يلي بلاد فارس فذنب
صاحبه غير مغفور ، وعذره غير مقبول ، فإن أردت أن ننصرك ونمنعك مما يلي
العرب فعلنا .
ولم
يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا من قبل يهمه جذب الناس إليه
فقط ، وبأي وسيلة كما يحدث من كثيرين من أصحاب الأفكار والمذاهب والأحزاب،
وإنما غايته إرشاد الناس إلى الله وتعاليمه ؛ ليكونوا بعد ذلك متبعين لأمره
سبحانه وتعالى ؛ لذا عذر صلى الله عليه وسلم هؤلاء فيما قالوا ، وكان رده
عليهم : ما أسأتم الرد إذ أفصحتم بالصدق إنه لا يقوم بدين الله إلا من
أحاطه من جميع جوانبه .
غير
أنه بث في قلوبهم التفاؤل ، وبشرهم بموعود الله الذي ينتظره وينتظر من آمن
معه ، فقال لهم صلى الله عليه وسلم : أرأيتم إن لم تلبثوا إلا يسيرا حتى
يمنحكم الله بلادهم وأموالهم ، أتسبحون الله وتقدسونه ؟ فقال له أحدهم ـ
وكأنه ذهل لما سمع هذا الكلام ـ : اللهم وإن ذلك لك يا أخا قريش ؟!(5) .
وأجاب
الواقع بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال ، فما هي إلا سنوات
حتى كان المثنى بن حارثة أحد المتكلمين الثلاثة يتوغل بقومه هؤلاء في أرض
فارس ، فاتحا منها ما شاء الله أن يفتح في خلافة أبي بكر الصديق ، وصدقت
فيهم نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أدهشتهم .
وواصل
رسول الله صلى الله عليه وسلم طوافه على القبائل ، وبينما هو يسير عند
مكان يسمى "العقبة " بمنى (مكان تجمع الحجاج بمكة) لقي رهطا من أهل يثرب
فقال لهم : من أنتم ؟ قالوا : نفر من الخزرج ، قال أفلا تجلسون أكلمكم ؟
قالوا: بلى ، فجلسوا معه فدعاهم إلى الله ، وعرض عليهم الإسلام ، وتلا
عليهم القرآن ، فأجابوه فيما دعاهم إليه ، وصدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم
من الإسلام ، وقالوا له : إنا قد تركنا قومنا ، ولا قوم بينهم من العداوة
والشر ما بينهم ، وعسى أن يجمعهم الله بك فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك ،
ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين ، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل
أعز منك ، ثم انصرفوا راجعين إلى بلادهم (6).
وكان
سبب إسراعهم ما كانوا يسمعونه من اليهود المجاورين لهم بيثرب أن نبياً
سيبعث الآن ، قد أظل زمانه ، كما ذكر أحدهم في قوله : إن مما دعانا إلى
الإسلام – مع رحمة الله تعالى وهداه لنا – ما كنا نسمع من رجال يهود ، كنا
أهل شرك أصحاب أوثان ، وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس لنا ، وكانت لا تزال
بيننا وبينهم شرور ، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: إنه قد تقارب
زمان نبي يبعث الآن ؛ نقتلكم معه قتل عاد وإرم ، فكنا كثيراً ما نسمع ذلك
منهم (7)..
رجع
هؤلاء المسلمون الجدد إلى قومهم بيثرب مستبشرين بهدايتهم ، فرحين بسبقهم
اليهود إلى هذا النبي الذي كانوا ينتظرون لقاءه ، ووصفوا لقومهم صفاته،
ودعوهم إلى الإسلام فأسلم كثير منهم ، حتى إذا كان العام المقبل وافى موسم
الحج منهم اثنا عشر رجلاً ، فلقوه صلى الله عليه وسلم عند العقبة التي
لقوه فيها العام الماضي ، فبايعوه على ألا يشركوا بالله شيئاً ، ولا يسرقوا
، ولا يزنوا ، ولا يقتلوا أولادهم ، ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم
وأرجلهم ، ولا يعصونه في معروف .
ثم
قال لهم - صلّى الله عليه وسلَّم -:" فإن وفيتم فلكم الجنة ، وإن غشيتم من
ذلك شيئاً فأخذتم بحدّه في الدنيا (أي عوقبتم عليه) فهو كفارة له ، وإن
سترتم عليه إلى يوم القيامة فأمركم إلى الله تعالى ، إنْ شاء عذب ، وإن شاء
غفر".
وهذه
البيعة حدد فيها رسول الله الأولويات التي يجب أن يدعى إليها الإنسان ،
ويلتزم بالمحافظة عليها بعد إسلامه ، وأكد رسول الله أن من فعلها فقد نجا ،
ونقول ذلك لنذكر به من يقومون بالدعوة في المجتمعات غير المسلمة ،
ليعرفوا المسلمين هناك بواجباتهم ، ولا يدخلوا بهم في أمور فرعية قد تجلب
عليهم الأخطار ، مع إن القاعدة الثابتة في الإسلام " لا يكلف الله نفسا إلا
وسعها " شاملة للجميع .
وبعد
أن تمت مبايعتهم بعث صلى اللّه عليه وسلم معهم رجلا من أصحابه يسمى " مصعب
بن عمير" يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ، ويقيم لهم الصلاة ، ويساعدهم في
دعوة باقي قومهم ، ويهيئ له الوضع بيثرب قبل أن ينتقل إليها ـ كما وعده
هؤلاء ـ وأوصاه بالصبر والإخلاص والوضوح والحكمة وحبّ الخير .
وإلى لقاء آخر إن شاء الله إن كان في العمر بقية والصحة متسع .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
*مدير موقع التاريخ الالكتروني
1ـ ابن كثير : البداية ج3 ص 139 والسيرة لابن حبان ص 93
2ـ سورة " الأنعام " : الآية 151 : 153
3ـ سورة " النحل" : الآية 90
4ـ الروض الأنف : ج1 ص209
5ـ عيون الأثر : ج1 ص 257
6ـ عيون الأثر : ج1 ص 262
7ـ ابن كثير : السيرة ج2 ص 176
8ـ السابق : ج2 ص 178 وما بعدها
المصدر : موقع التاريخ