د / أحمد عبد الحميد عبد الحق *
الحمد
لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم الأنبياء
والمرسلين ، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين.. وبعد ..
فقد
تحدثت في الحلقة السابقة عن هجرة بعض المسلمين إلى الحبشة ليجدوا هنالك
مكانا آمنا يعبدون الله سبحانه وتعالى فيه ، وأثر ذلك في ازدياد حنك مشركي
مكة على النبي صلى الله عليه وسلم حتى فرضوا عليهم حصارا قاتلا منعوهم فيه
من الطعام حتى اضطر بعضهم لأكل ورق الشجر ، واليوم بمشيئة الله عز وجل أكمل
حديثي فأقول : إن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى ديار مكة قد أغلقت في
وجه دعوته بدأ يبحث عن مكان آخر غير مكة لعله يجد من يسمعون له ويتبعونه
على دينه ، فخرج إلى قبيلة " ثقيف " بالطائف ، وهي بلدة تبعد عن مكة نحو
ستين ميلا ، قطعها صلى الله عليه وسلم ماشيًا على قدميه ، جيئة وذهابًا،
ومعه مولاه زيد بن حارثة ؛ لعله يجد هناك من يستجيب لأمره ..
وهناك
أقام صلى الله عليه وسلم يتجول بين شوارعها عشرة أيام ، لا يدع أحدًا من
أشرافهم إلا جاءه وكلمه ؛ لكنه وجدهم أكثر إعراضا وكفرا من أهل مكة ،
وقالوا : اخرج من بلادنا ، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ، ويصيحون
به حتى اجتمع الناس عليه ، وقعدوا له صفين على طريقه ، وصاروا يقذفونه
بالحجارة ، فجعل لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة ، حتى سال
الدم من قدميه ، وشُجت رأس مولاه زيد بن حارثة (1) .
فعلوا
ذلك به لأنه قال لهم : اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ، ولأنه أراد لهم
أن يخرجوا من الظلمات إلى النور ، من غضب الله وعقابه إلى رضوان الله وجنته
.
وهذا
الموقف لو عاشه أحد غير رسول الله لغلبه اليأس ، ولما فكر في أن يعود إلى
دعوة الناس مرة أخرى ؛ لكنه صلى الله عليه وسلم ما ضجر ، ولم يزد على أن
رفع يديه إلى السماء ، وردد هذه الكلمات : " اللّهم إليك أشكو ضعف قوتي ،
وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت
ربي، إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني ! أو إلى عدوّ ملّكته أمري ! إن لم
يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي ، ولكن عافيتك هي أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك
الذي أشرقت به الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك ،
أو تحل بي سخطك لك العتبى حتى ترضى ، لا حول ولا قوة إلا بك"(2) .
كلمات
تدل على كمال تجرده لله عز وجل ، تجرد جعل نفسه تسلم بكل ما قضاه الله ،
وإخلاص جعل نفسه تتحمل كل عسير في سبيل رضا الله وعدم غضبه ، وثقة في موعود
الله سبحانه وتعالى بأنه سيجعل له بعد العسر يسرا ، طمأن بها مولاه قائلا
: إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا ، وإن الله ناصر دينه ، ومظهر نبيه .
وعاد
إلى مكة بعد هذه الرحلة المضنية ، وكانت الأخبار قد سبقته إليها بما لاقاه
على يد أهل الطائف من إهانة ، فازدادوا في تعنتهم ، وعزموا على عدم إدخاله
إليهم ، لولا أنه استجار برجل من كبار قريش ، ممن سعوا في رفع الحصار عن
المسلمين من قبل وهو "المطعم بن عدي" مما جعل أبا جهل يسخر منه قائلا : هذا
نبيكم يا بني عبد مناف .
واشتدت
وطأتهم على أصحابه لدرجة أن أبا بكر الذي كان لا يصبر على فراقه استأذنه
في الخروج إلى الحبشة ؛ ليستريح من عنتهم فأذن له وهم بالخروج ، لولا أن
رجلا من أصحاب الزعامة في قومه ويسمى "ابن الدغنة" عز عليه أن يخرج من مكة
رجل مثل أبي بكر يستفيد من خيراته الصغير والكبير ، فقال له وهو في طريقه :
إلى أين يا أبا بكر ؟ قال : أخرجني قومي ، فأريد أن أسيح في الأرض ، وأعبد
ربي ، فقال ابن الدغنة : إن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج ، إنك تكسب
المعدوم ، وتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق ،
فأنا لك جار ، ارجع واعبد ربك ببلدك .
فرجع
وارتحل معه ابن الدغنة ، وطاف عشية في أشراف قريش ، فقال لهم : إن أبا بكر
لا يخرج مثله ، ولا يخرج ، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم ، ويصل الرحم ،
ويحمل الكل ، ويقري الضيف ، ويعين على نوائب الحق (3).
وي
تلك الأثناء تجلت رحمة الله بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم جاءت رحلة
الإسراء ثم المعراج ليريه سبحانه وتعالى حقيقة هؤلاء المعاندين وغيرهم من
سائر المشركين ، وحجم الأرض التي يتفاخرون بقوتهم عليها بالنسبة للكون الذي
بسطه الله سبحانه وتعالى ، فأرسل جبريل "الملاك" واصطحبه إلى بيت المقدس ،
حيث كان يعيش كثير من الأنبياء الذين سبقوه ؛ ليذكره بحالهم وحال الأمم
الذين سبقوهم ، ثم عرج به إلى السماء ، إلى حيث لم يبلغ أحد من البشر ؛
لينظر من هناك إلى ملك الله الواسع الفسيح ، وينظر إلى الأرض ، ويعلم أين
هي وسط مليارات النجوم التي تسبح في الفضاء ، وكم تساوي هي ومن عليها
بالنسبة لكون الله الواسع ، وحجم الذين يصدونه عن دين الله ، ويتحدونه بكل
ما أوتوا من قوة .
وإذا
كان من صعدوا الفضاء قد رءوا الأرض كحجم الكرة الصغيرة ، فأحسب أن رسول
الله قد رآها في معراجه أصغر من حبة الرمل ، وأما من عليها فلم يبدوا شيئا
على الإطلاق ، تناهوا في ملك الله كحبة الرمل التي تُلقى في البحر المحيط .
ثم
عاد به الملاك بعد أن رأى من آيات ربه الكبرى ما ازداد به يقينا على يقينه
، وقد فرض الله عليه وعلى المسلمين في هذه الرحلة الصلوات الخمس ، وكأن
الله تعالى يقول له : بعد أن وقفت أمامي ورأيت عظمتي وعظمة ملكي ؛ فصغرت في
عينك الأرض ومن عليها ، ها هي الصلوات الخمس تقف فيها أنت والمسلمون أمامي
خمس مرات كل يوم ، تكبرون الله فيها ، فتزدادوا يقينا وثقة وعزا ، ويصغر
في عينكم كل متكبر يظن في نفسه القوة والعظمة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ