د / أحمد عبد الحميد عبد الحق *
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم
الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين.. وبعد ..
فقد
أنهيت في المقالات العشر السابقة الفصل الأول من حياته صلى الله عليه وسلم
الدعوية ليبدأ بذلك مرحلة جديدة ، ألا وهي مرحلة تأسيس الدولة ، والسير
بها في خضم الضلال الذي يحيط بها ، ويواجه بها كل خطر يهددها ، فلنعش معها
في المقالات التالية ، ونتلمس فيها خطاه صلى الله عليه وسلم ؛ كي نستطيع أن
نواجه مشاكل الحاضر كما واجه رسول الله ومن معه من المسلمين صعوبات الماضي
وأبدأ معكم حديثي اليوم بدخول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ،
حيث نزل عليه السلام قبيل دخوله المدينة المنورة ببلدة " قباء " وقد دخلت
في حيز المدينة العمراني الآن ، فأقام بها بضعة عشرة ليلة ، شيد خلالها
مسجدا متواضع البناء ، يعرف إلى الآن بمسجد قباء ، وهو أول مسجد بني في
الإسلام .
ثم أدركته صلاة الجمعة وهو داخل المدينة في منازل لقبيلة تسمى
"بني سالم بن عوف" فأقام بها مسجدا آخر وصلى فيه الجمعة بمن معه ، وخطب
فيهم خطبة ، حمد الله فيها وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : أما بعد أيها
الناس فقدموا لأنفسكم ، تعلمنّ والله ليصعقنّ أحدكم ثم ليدعن غنمه ليس لها
راع ، ثم ليقولن له ربه ليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه : ألم يأتك
رسولي فبلغك ؟ وآتيتك مالا وأفضلت عليك ؟ فما قدمت لنفسك ؟ فينظر يمينا
وشمالا فلا يرى شيئا ، ثم ينظر قدامه فلا يرى غير جهنم ، فمن استطاع أن يقي
وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل ، ومن لم يجد فبكلمة طيبة ، فإن بها
تجزئ الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، والسلام على رسول الله ورحمة
الله وبركاته(1).
ثم خطبهم صلى الله عليه وسلم الخطبة الثانية ، فقال : إن الحمد
لله أحمده وأستعينه ، نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده
الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده
لا شريك له ، إن أحسن الحديث كتاب الله ، قد أفلح من زينه الله في قلبه ،
وأدخله في الإسلام بعد الكفر ، واختاره على ما سواه من أحاديث الناس ، إنه
أحسن الحديث وأبلغه .
أحبوا من أحب الله ، أحبوا الله من كل قلوبكم ، ولا تملوا كلام
الله وذكره ، ولا تقسُ عنه قلوبكم ، فإنه من يختار الله ويصطفي فقد سماه
خيرته من الأعمال، وخيرته من العباد ، والصالح من الحديث ، ومن كل ما أوتي
الناس من الحلال والحرام ، فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، واتقوه حق
تقاته ، واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم ، وتحابوا بروح الله بينكم ،
إن الله يغضب أن ينكث عهده ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (2).
وقبل أن أقف وقفة مع صلاة الجمعة التي فرضت على المسلمين قبيل
دخول رسول الله المدينة ، ألفت نظر القارئ إلى ما جاء في هاتين الخطبتين
اللتين ألقاهما رسول الله وهو يضع نواة الدولة الإسلامية ؛ ليقارن بنفسه
بينهما وبين البيانات التي يلقيها كل عظيم عند الوصول لسدة الحكم ، ويعرف
مزية تلك الدولة على ما سواها من الدول التي قامت عبر التاريخ ، قديمه
وحديثه.
إن الخطبة الأولى لم تتضمن أكثر من الحث على التضامن بين البشرية ،
وحض الأغنياء على مساعدة المحتاجين كل حسب قدرته ، ولم يفرض صلى الله عليه
وسلم ذلك بقوانين الجبرية ، كما حاول أن يفعل زعماء الشيوعية ، حيث صادروا
أموال الأغنياء ، وسلطوا عليهم الفقراء بثوراتهم ، وإنما ذكرهم بالله ،
وبلقاء الله ، فهو الذي سيكافئ المعطي ، ويعاقب الممسك .
وأما الخطبة الثانية فكان محورها نشر الحب بين الناس ، وذكر الله ،
وتزكية النفس ، التي بها يرسخ هذا الحب ، وهل تطمح البشرية الآن في أكثر
من ذلك ؟؟.
ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الجمعة في بني سالم حتى
دخل وسط المدينة ، وهناك وجد أهلها في استقباله ، الصغير والكبير ، الرجال
والنساء ، الكل قد هتف عند رؤيته : الله أكبر ، جاء محمد ، وتلقوه بالفرح
والسرور والبشر ، حتى كان يوما مشهودا ، لم تر المدينة مثله في تاريخها ..
وصار لا يمر بدار من دور الأنصار ألا ودعاه أهلها للنزول عندهم ،
لينالوا بذلك الشرف في الدنيا والآخرة ، إلا أنه نزل عند أخواله من بني
النجار في المكان الذي أوحى الله إليه ببناء مسجده فيه ، ثم قال : أي
بيوت أهلنا أقرب ؟ فقال أبو أيوب : أنا يا رسول الله ، هذه داري ،
وهذا بأبي ، فقال صلى الله عليه وسلم : فانطلق فهيئ لنا مقيلًا (
مكانا نقيل فيه) فعاد أبو أيوب وقال : على بركة الله ، فمشي معه وأقام
عنده حتى فرغ من بناء مسكنه بجوار المسجد ، وانتقل إليه(3).
وإلى لقاء آخر إن شاء الله إن كان في العمر بقية وفي الصحة متسع .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
*مدير موقع التاريخ الالكتروني
1 ـ ابن هشام : السيرة ج3 ص30 وابن كثير : البداية ج3 ص214
2 ـ ابن كثير : البداية ج3 ص214
3 ـ الذهبي : تاريخ الإسلام ج1 ص 97
المصدر : موقع التاريخ