محمد بن عبد الله الشيباني
تربى
في حجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعاش في كنفه ورأى وسمع وشاهد من
أخلاق النبوة ما جعله مثالاً للشجاعة الأدبية، بجانب ما منحه الله من قوة
الشَّكِيْمة، والمسارعة في مقارعة صناديد الرجال، ولا غروَ فهو من دوحة بني
هاشم، التي أنجبت الرسول الأكرم -صلى الله عليه وسلم-، والتي عُرفت بكل
صفات الكرم والشجاعة والمروءة، فتسنمت معارج السؤدد على قريش، بما تمتاز به
من مكارم الأخلاق ونبلها، فلا غرابة أن نجد علي بن أبي طالب -رضي الله
عنه- دوحة بذاته تميز بهذه الصفات، وأكملَها بالتقوى والإيمان والزهد.
إن
شجاعة علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- في مواطن الحروب ومقارعة الأبطال
أمر ظاهر وبارز، تأتي في قمتها الفدائية التي يَنْدُر أن نجد لها مثالاً،
فهي فدائية تتسم بالتضحية بالنفس في مواطن تقل فيها الفدائية ، وسوف أستعرض
موقفين يمثلان تلك الفدائية النادرة:
الصورة الأولى:
مبيتُه
في فراش رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتوشحه بردائه طوال الليل، وهو
ينتظر في كل لحظة هجومَ القوم المحاصرين لمنزل رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-، فهاجس الموت يتراقص أمام عينيه طوال الليل، ومغالبته لهذا التوجس
والعمل على التعمية على القوم، حتى لا يشكوا في أمره، فيظلون على اعتقادهم
بأن الذي في الفراش هو مبتغاهم محمد - عليه الصلاة والسلام -، لتكتمل خطة
الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالخروج من مكة واللجوء إلى مخبئه في غار ثور،
وقد استمرت هذه المعاناة طوال الليل حتى فلق الصبح عن ضيائه، فسارع علي
-رضي الله عنه- بالنهوض عن الفراش بعد أن توجه القوم إليه لينفذوا تأمرهم
بقتل النبي -عليه أفضل الصلاة والسلام وأزكى التسليم-، فَسُقط في أيديهم
لما رأوا علياً -رضي الله عنه- ولم يروا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-،
فسألوه عنه؟ فقال لهم: لا أدري.
فاقتادوه إلى المسجد، وحبسوه وضربوه، ثم خلوا عنه حينما لم يجدوا فائدة من بقائه.
الدرس المستفاد:
يتميز
هذا النوع من الفدائية، بالتوجس من القتل في كل لحظة وهو أعزل من السلاح،
يقف المتربصون من فتيان قريش منتظرين ساعة الهجوم، فالموت يلوح أمام عينيه،
فهو ليس في معركة يحمل سلاحه ويجالد أعداءه، فيأخذ منهم قبل أن يتمكنوا
منه، ولكنه في موقفه هذا موقف من حُكِمَ عليه بالقتل وهو حر في حركته،
ولكنه يُوطِّن نفسه على البقاء لمواجهة القتل، متدثراً بالرداء،
مُضْطَجِعاً فوق الفراش، حركته محكومة تتسم بالهدوء، مُمثلاً طبيعة رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- فيما اعتاد عليه من مجابهة كفار قريش.
الصورة الثانية:
من
فدائيته -رضي الله عنه-، فقد كانت في غزوة الخندق، عندما برز عمرو بن عبد
ود وهو من فرسان قريش المعدودين، له بأس وقوة وشجاعة، وقد تمكن هو وثلة من
فرسان قريش من اقتحام الخندق في مضيق به. برز عمرو بن عبد ود وطلب
المبارزة، فقام علي -رضي الله عنه- وأستأذن من رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- ثلاث مرات، والرسول -عليه الصلاة والسلام- يقول: ((اجلس إنه عمرو بن
عبد ود))، وفي الثالثة رد على حبيبه –صلى الله عليه وسلم- بقوله: "وإن كان
عمراً"، عندئذ أذن له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأعطاه سيفه ذا
الغفار، حتى لُقِّب به -رضي الله عنه-، بلقب "علي ذي الغفار".
فمشى إليه علي -رضي الله عنه- وهو يقول:
لا تعجلن فقد أتاك *** مجيب صوتك غير عاجز
ذو نبهة وبصيرة *** والصدق منجا كل فائز
أني لأرجو أن أقيم *** عليك نائحة الجنائز
من ضربة نجلاء يبقى *** ذكرها عند الهزاهز
وقد
طلب عمرو بن عبد ود أن لا يُبارزه، لعلاقته بأبي طالب حيث كره إراقة دم
علي لعلاقته بأبيه، لكنه -رضي الله عنه- كان ردُّه صارماً بقوله: "والله
أحب أن أقتلك"، فثارت حميه عمرو بن عبد ود، وكان عليٌ راجلاً، فأثار غضب
عمرو بقوله: "كيف أقاتلك وأنت على فرسك، ولكن أنزل معي"، وفي قوله هذا
استدراج له ليتمكن علي من مصارعته بدون تفوقه عليه بركوبه على فرس، ونجحت
خطته، فنزل بعد أن ضرب وجهه، وأقبل إلى علي -رضي الله عنه-، فالتحما وقد
شُجّ رأس علي -رضي الله عنه-، وسارعه علي -رضي الله عنه- فضربه على حبل
عاتقه فخر صريعاً. فما انجلى النقع حتى رئي علي على صدر عمرو يقطع رأسه،
فلما رأى أصحابه أنه قد قَتَله علي اقتحموا بخيلهم الثغرة منهزمين هاربين.
ثم
أقبل علي -رضي الله عنه- نحو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ووجهه يتهلل،
فقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- هَلَّا أسلبته درعه، فليس للعرب درعاً
خيراً منها، فقال: "ضربته فاتقاني بسوءته، واستحييت بن عمي أن أستلبه"،
وخرجت خيله منهزمة حتى أقحمت من الخندق(1).
الدرس المستفاد:
*
تمثل هذه الفدائية لعلي -رضي الله عنه- في هذا الموقف، بمواجهة صنديد من
صناديد العرب وشجاع من شجعانهم، وقد تردد الناس من الاستجابة لطلبه في
المبارزة، كلما طلبها يمنعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خوفاً عليه،
ولكنه -رضي الله عنه- يُدرك أن عدم الاستجابة لطلب عمرو بن عبد ود للمبارزة
سيؤدي إلى زرع الخوف في المسلمين، وهم في أمس الحاجة إلى رفع المعنوية،
فالمسلمون في موقف صعب كما وصفه القرآن الكريم؛ (وَبَلَغَتِ القُلُوبُ
الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا).
إن
فدائية على -رضي الله عنه- وإقدامه لمبارزة فارس من فُرسان قريش المعروفين
بالشجاعة والقوة، تُحدد نوع الفدائية التي ينبغي للمسلم التحلي بها، إنها
فدائية التضحية لما فيه عزة الإسلام والمسلمين بدفع الأذى عنهم وإيقاع
الخوف والفزع في صفوف الأعداء، فالتضحية بالنفس مطلوبة، بل هي واجبة لمن
يمتلك تلك القدرة إذا كان في القيام بها غيض للأعداء ونيل منهم، وفَت في
عَضُدِهم عندئذ تكون الفدائية مطلباً أساسياً في المجتمع المسلم.
ــــــــــــــــــــ
الهوامش :
(1) ينظر: المستدرك للحاكم (3/34)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (42/78)، تفسير القرطبي (14/134).
المصدر : مجلة الجندي المسلم