عندما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من
عمرة القضاء بعث ابن أبي العوجاء السلمي في خمسين فارساً ، وكان معهم عين
لبني سليم ، فلما فصل من المدينة خرج العين إلى قومه فأخبرهم ، فجمعوا
جمعاً غفيراً واستعدوا للقاء المسلمين.
وعندما جاءهم المسلمون دعوهم إلى الإسلام فرفضوا ،
وأحدقوا بالمسلمين ، فقتلوا عامتهم ، وأصابوا ابن أبي العوجاء وتركوه
جريحاً بين القتلى ، ثم تحامل حتى بلغوا المدينة في أول يوم من صفر سنة
ثمان من الهجرة.
المبحث الثاني : إسلام عمرو بن العاص وخالد بن الوليد (رضي الله عنهما) :
وروى أحمد وابن إسحاق أن عمرو بن العاص عندما رأى
علو شأن الرسول صلى الله عليه وسلم تحدث مع من يسمعون له من رجال قريش في
أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأقنعهم بالخروج معه إلى النجاشي ، فهو أحب
إليهم أن يكونوا عنده من أن يكونوا تحت يدي محمد إذا ظهر ، وإن ظهر قومهم
فلن يأتيهم منهم إلا الخير لمعرفتهم بهم. وجمعوا جلوداً ليهدوها إلى
النجاشي لأن ذلك أحب ما يهدى إليه من أرض الحجاز. واتفق أن جاؤوا النجاشي
وعنده عمرو بن أمية الضمري رسولاً من النبي صلى الله عليه وسلم ، فعندما
خرج من عند النجاشي دخل عليه عمرو وطلب منه أن يعطيه إياه ليقتله لأنه من
عدوه ، فغضب منه النجاشي وضربه على أنفه ، فخاف واعتذر ، ثم قذف الله في
قلبه الإسلام لما رأى حماسة الناس حتى العجم في الإيمان بمحمد والدفاع
عنه. ولم يتردد عمرو في مبايعة النجاشي على الإسلام عندما اقترح عليه
النجاشي ذلك ، ثم خرج وكتم إسلامه عن أصحابه وعاد إلى بلاده.
وقبيل الفتح خرج عمرو بن العاص عامداً إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ليسلم ، فلقيه خالد بن الوليد يريد ما
يريد عمرو فقدما سوياً على الرسول صلى الله عليه وسلم ، فبايعا على
الإسلام.
ومما يؤكد أن إسلام عمرو وخالد كان في التاريخ
الذي ذكره ابن إسحاق والواقدي أن اسم خالد ظهر في سرية مؤتة في جمادى
الأولى سنة ثمان من الهجرة وأن اسم عمرو بن العاص ظهر في سرية ذات السلاسل
في جمادى الثانية سنة ثمان من الهجرة.
أما قصة إسلام خالد فقد رواها الواقدي ، وخلاصتها
أن خالداً عندما أراد الله به ما أراد من الخير وقذف في قلبه الإيمان ،
كان ينصرف بعد كل موطن شهده ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويفكر ، فيرى
في نفسه أنه في موضع غير موضعه وأن محمد سيظهر ، وفي غزوة الحديبية
بالذات تأكد له أن الرسول صلى الله عليه وسلم ممنوع ، لأنه عندما هم أن
يغير بخيله على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان ، أطلع الله رسوله
صلى الله عليه وسلم على ما في أنفسهم فصلى بأصحابه صلاة الخوف ، ولم يترك
لهم فرصة. وعندما تم الصلح بالحديبية رأى أنه لم يبق شيء ، ففكر في الذهاب
إلى النجاشي وهرقل ، وبينما هو يقلب هذا الأمر في ذهنه ، دخل رسول الله
في عمرة القضاء ، فتغيب ، ودخل أخوه الوليد في الإسلام في هذه العمرة ،
وطلبه فلم يجده ، فكتب إليه كتاباً فيه تعجبه من مثله في ذهاب عقله عن
الإسلام ، وذكر له سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم وقوله عنه : (ما مثله
جهل الإسلام ، ولو كان جعل نكايته وجده مع المسلمين على المشركين كان
خيراً له ولقدمناه على غيره) ، فلما جاءه كتاب أخيه نشط للهجرة ، وزاده
رغبة في الإسلام أنه رأى في المنام كأنه في بلاد ضيقة جدبة ، فخرج منها
إلى بلاد خضراء واسعة ، فقال : إن هذه لرؤيا ، فذكرها لأبي بكر عندما قدم
المدينة ، فقال : هو مخرجك الذي هداك الله للإسلام والضيق هو الشرك.
وعندما أجمع الهجرة أراد أن يرافقه رجال في مكانته
، فاتصل بصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل ، فرفضا ، فتركهما فخرج ، وعند
خروجه التقى بصديقه عثمان بن طلحة فذكر له ما يريد ، فعلم منه أنه يريد
ما يريد ، فاتعدا بيأجج ، وخرجا سحراً والتقيا عند الفجر بيأجج وسارا حتى
انتهيا إلى الهدة ، فوجدا عمرو بن العاص بها ، فتعارفوا ثم ساروا سوياً
إلى المدينة فأسلموا ، وكان ذلك في صفر سنة ثمان من الهجرة.
المبحث الثالث : سرية غالب بن عبد الله إلى الكديد :
أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشن الغارة
على بني الملوح ، وهم بالكديد [ وهي منطقة بين عسفان وقديد] ، وفي طريقه
إليهم ، وفي منطقة قديد [ وهي قرية جامعة بين مكة والمدينة كثيرة المياه ]
لقوا الحارث بن مالك ، وهو ابن البرصاء الليثي ، فأخذوه ، فأخبرهم أنه في
طريقه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلم ، فلم يطمئنوا إليه
فأوثقوه واعتذروا إليه بأن رباط ليلة لن يضيره ، وتركوه مع رجل أسود من
أصحابه ، وأوصوه أن يقتله إذا غالبه. وأتوا الكديد عند الغروب ، فكمنوا
وأرسلوا جندب بن مكيث الجهني طليعة لهم ، فأتى تلاً مشرفاً على الحاضر ،
فرأى رجل من الأعداء أن هناك شيئاً مريباً فأصابه بسهم فلم يتحرك حتى لا
يكشف أمر أصحابه ، ونزع السهم من جسده ووضعه ، وفي السحر شنوا الغارة على
الأعداء واستاقوا النعم ، ومضوا بها ، ومروا بابن البرصاء وصاحبه
فاحتملوهما معهم ، وفي هذا الأثناء استغاث القوم فجاءهم جمع غفير لا قبل
للمسلمين به ، فساروا في إثرهم حتى قربوا منهم ، ولم يكن بينهم وبين
المسلمين إلا وادي قديد ، فأرسل الله الوادي بالسيل من غير سحاب ولا مطر ،
فلم يستطيعوا تجاوزه ، ونجا المسلمون منهم.
وكانت هذه السرية في صفر ثمان من الهجرة ، وكانوا بضعة عشر رجلاً.
المبحث الرابع : دروس وعبر من أحداث هذه السرية :
1- إن إرسال الله تعالى الوادي بالسيل ليمنع الأعداء من الإيقاع بالمسلمين كرامة لهم.
2- وفي خبر إصابة جندب بسهم في جسده ومع ذلك لم يتحرك ، لدليل على تفاني المسلمين الأوائل وتحملهم أشد أنواع الأذى في سبيل هذه الدعوة.
3- إن في خبر ربط المسلمين ابن البرصاء دليلاً على أهمية أخذ الحذر من الأعداء.
4- وفي
إرسال الطلائع للتجسس على أخبار الأعداء دليل على أهمية اتخاذ العيون
أخذاً بالأسباب في المحافظة على أرواحهم والإيقاع بالعدو ، وأخذه على حين
غرة ما دامت قد بلغته الدعوة ، وأخذ في تهديد أمن المسلمين.
المبحث الخامس : سرية غالب بن عبد الله الليثي أيضاً إلى مُصاب أصحاب بشير بن سعد بفدك :
هيأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن
العوام في مائتي رجل ليسير إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد بفدك. وعندما عاد
غالب من سرية الكديد أرسله مكان الزبير ، وقيل خرج معه في هذه السرية
أسامة بن زيد وعلبة بن زيد ، فأصابوا منهم نعماً ، وقتلوا منهم قتلى. وقيل
كان ذلك في صفر سنة ثمان من الهجرة.
وذكر الواقدي أن أسامة بن زيد قتل في هذه السرية
نهيك بن مرداس وهو يقول : لا إله إلا الله ، وعنفه الرسول صلى الله عليه
وسلم لهذا المسلك. وروى بإسناده إلى المقداد بن عمرو أنه قتل رجلاً شهد أن
لا إله إلا الله ، فعنفه الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك ، ولما يذكر أن
ذلك كان في هذه السرية.
ويبدو الاختلاف ظاهراً في قصة الرجل الذي قال : لا
إله إلا الله فقتله أحد الصحابة، فمرة أنه أسامة ، ومرة أن المقداد ،
ومرة في سرية الحرقة ويسمى المقاتل ولا يسمى المقتول ، ومرة في سرية
الكديد ، ومرة ثالثة في سرية الميفعة ، والراجح كما قلنا ، وكما هو ثابت
في الصحيحين أن قصة قتل أسامة لرجل شهد أن لا إله إلا الله قد وقعت في
سرية الحرقة من جهينة ، وسمى ابن إسحاق الرجل المقتول ، وهو مرداس بن نهيك
، وإسناده صحيح.
المبحث السادس : سرية كعب بن عمير إلى قضاعة بذات أطلاح :
أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم في خمسة عشر
رجلاً حتى انتهوا إلى ذات أطلاح من أرض الشام ، من وراء وادي القرى ، وذلك
في ربيع الأول من العام الثامن الهجري ، فكان يسير الليل ويكمن النهار ،
حتى دنا منهم ، فرآه عين لهم فأخبرهم بقلة عددهم فجاءوهم على الخيول
فقتلوهم إلا رجلاً واحداً أفلت منهم فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بما
حدث ، فهم بالبعث إليهم ، ولكنه بلغه أنهم ساروا إلى موضع آخر ، فتركهم.
المبحث السابع : دروس وعبر :
في هذه السرية
درس بليغ للناس عما كان يقع للصحابة المجاهدين في سبيل الدعوة الإسلامية.
وقد تكرر مثل هذه الحادثة كثيراً كما هو واضح من سردنا لأحداث هذه
السرايا الصغيرة.
المبحث الثامن : سرية شجاع بن وهب إلى السي من أرض بني عامر :
في ربيع الأول من العام الثامن الهجري بعث رسول
الله صلى الله عليه وسلم شجاع بن وهب في أربعة وعشرين رجلاً إلى جمع من
هوازن بالسي ، من أرض بني عامر ، ناحية ركبة ، فأغاروا عليهم ، فأصابوا
نعماً كثيراً وشاء ، فعادوا بها بعد غياب دام خمس عشرة ليلة ، وجاء في
أثرهم وفدهم إلى المدينة وأعلنوا إسلامهم، فرد المسلمون إليهم السبي. وكان
في السبي جارية وضيئة اختارت المقام مع شجاع بن وهب.
وفي قصة هذه الجارية دليل على مدى أثر أخلاق المسلمين في غيرهم ، حتى ولو كان هذا الغير هم ممن حاربوهم وأرادوا القضاء عليهم.
وقد تكون هذه السرية هي التي أشار إليها البخاري
ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية
فيها عبد الله بن عمر قبل نجد ، فغنموا إبلاً كثيرة فكانت سهامهم اثني عشر
بعير أو أحد عشر بعيراً ، ونفلوا بعيراً بعيراً.
وقد تكون سرية نجد التي أشار إليها البخاري ومسلم
وغيرهما هي ذاتها سرية أبي قتادة بن ربعي الأنصاري إلى خضرة ، وهي أرض
محارب – من غطفان – بنجد ، في شعبان سنة ثمان من الهجرة ، وكان معه خمسة
عشر رجلاً ، فهجم على حاضر منهم عظيم ، فقتلوا من أشرف لهم واستاقوا النعم
والسبي ، وكان نصيب كل رجل منهم اثني عشر بعيراً ، فصارت في سهم أبي
قتادة جارية وضيئة ، فاستوهبها منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوهبها
له ، فوهبها النبي صلى الله عليه وسلم لمحمية بن جزء.
وغابوا في هذه السرية خمس عشرة ليلة.
المبحث التاسع : سرية زيد بن حارثة إلى مدين :
بعثه إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه
ضميرة مولى علي بن أبي طالب ، وأخ له ، فأصاب سبياً من أهل ميناء ، وهي
السواحل ، وفيها جماعات من الناس مختلطين ، فبيعوا ، ففرق بينهم الأمهات
والأولاد ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم وهم يبكون ، فقال :
(مالهم ؟) فقيل : (يا رسول الله ، فرق بينهم) ، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : (ولا تبيعوهم إلا جميعاً).
ولم تذكر المصادر التي بين يدي تاريخاً معيناً لهذه السرية. ويستنتج أنها وقعت قبل سرية مؤتة ، لأن زيداً استشهد في سرية مؤتة.
كتاب السيرة النبوية في ضوء مصادرها الأصلية، للدكتور مهدي رزق الله ، ص 531 .