ترجمة وإعداد : أ. علي فاضل
كان
المسرح العالمي في منتصف القرن الثاني قبل الميلاد جاهزا لقيام حركات
تاريخية كبرى ، فقد حلت الإسكندرية محل بابل كعاصمة للعالم آنذاك ، وأخذت
روما المكانة التي كانت تشغلها مكدونية حتى وقت قريب بعد أن ألحقت بها
صقلية واليونان الكبير ، وكانت الثقافة الآرامية قد بدأت تنحسر في الشرق
تحت ضربات شعوب الشرق الأقصى التي تعرض السلوقيون لهجماتها الأولى ، بينما
أخذت تكسب في الغرب في عمق أوروبا الغربية .
لم
يكن لروما الجمهورية قبل ذلك الوقت ذلك الوزن العالمي ، فقد ذكر جوفينال
(67 -130 م ) : أن مقر مجلس شيوخها كان عبارة عن صالة طولها 25 م وعرضها 18
م لا منصة فيها ولا تدفئة ، وكانت مقاعدها من الخشب . ولم يكن فيها غير
منبر للرئيس ، وأن عدد سكانها وهي العاصمة بحدود 50 ألف نسمة ، وأن الأرياف
كانت شبه فارغة ، وأن أعمال الحقول تقوم بها الثيران والحمير، وأن هناك
نقصا كبيرا في اليد العاملة، وقد ذكر الكاتب تيت – ليف : أن المزارع
الإيطالي كان يعمل شبه عار تحت أشعة الشمس المحرقة مستصلحا حجارة وصخورا ،
ويشرب عند طرف الحقل قليلا من الخل والماء ، وكان الأسياد داخل الكوخ ، إنه
كان عبدا وحسب ،لم تكن هناك أية مقارنة بين الاستثمارات في روما وبين
الاستثمارات الغنية في مصر وفلسطين وسوريا ، أو ما بين النهرين .
وقد
تم بعد وقت قصير استيعاب روما من قبل نظام مصرفي عالمي ، ونظام تجاري
تغذيه العواصم الآسيوية ، إن هذا النظام هو الذي قوض الاقتصاد الرعوي
الريفي الفقير للمدينة الرعوية والعسكرية الصغيرة في العصور الأولى ( أي
روما ) وما أن صارت روما على علاقة بالمدن الكبرى للجنوب الإيطالي ،
المبنية وفق مخططات دقيقة ، والغنية بالنصب التذكارية وبالمعابد وبالمدارس
الفلسفية والعلمية ذات الشهرة العالمية والتي كانت قد استمدت ثقافتها من
الشرق الفينيقي والمصري ، حتى غيَرت من ملامحها , وعدَلت في البنى الخاصة
باللغة والمدنية الرومانية .
وما
أن اطلعت على البروتوكولات وعلى الأسرار الإمبراطورية للبطالمة حتى اكتسبت
بعداً أكبر وانغمرت في خضم الجموع الغفيرة للشرق ، لقد تزايد عدد
المضاربين في الأسواق في روما ، وأخذ المد المالي يتدفق دون عراقيل ،
وانتشر نظام الإقراض حتى تجاوزت نسبة الفائدة فيه 50 % .
وكانت
هناك تحركات مصرفية هائلة أدت إلى سرعة الإثراء الفاحش الذي كسبته
العائلات الرومانية المشاركة في السلطة وفي مصارف الشرق ، وتبع ذلك فساد
مالي وإداري كبير ، وعبثا حاولت قوانين ( أتيليا وفوكانيا ) أن توقف هذه
المضاربات فمن أين أتت هذه الأموال . . ؟ والجواب : إنها بالتأكيد ليست
من المواد الأولية ، والصناعة ، أو من أعمال الرومان ، إنها من الأموال
التي كانت تأتي من الخارج لدفع ثمن الخدمات ، ومن تقدمات لأشراف الرومان
شكلت قوى شرائية سمحت لهم باستيراد المنتجات الفاخرة التي كانت تصل إلى
المقاطعات من إسبانيا والقوقاز وبابل ومصر والسودان والجزيرة العربية
وغيرها من البلدان ، التي كانت تسيطر عليها شبكة من رجال الأعمال الآسيويين
الذين لم تكن العائلات الرومانية سوى موظفين لديهم ، وهكذا اشتريت روما
من قبل الشرق ، وهذا يعني أن سيادتها كانت نظرية أكثر منها فعلية ،إن
المجتمع الروماني قد تحول إلى مستهلك للمال ليس إلا ، لأن تدفق الأموال
المصحوب بتضخم هائل قد خرب الطبقات العاملة ، ولم يبق في روما مكان
للحرفيين والعمال وصغار الصناعيين والتجار المحليين ، أما بالنسبة للزراعة
فإنها لم تعد تمارس إلا من قبل العبيد ، وأصبحت السلع الأساسية منذ ذلك
الوقت كلها مستوردة .
لقد
حصل لروما ما كان قد حصل لأثينا ، فقد خضع اقتصادها كله للتبعية الخارجية ،
إن هذه الاعتبارات تفيدنا في فهم الدبلوماسية الرومانية آنذاك بشكل أفضل ،
وهي التي ما زالوا يزينوها بريش الطاووس ، وخلال فترة قصيرة ، لم يعد
هناك فرق بين روما والإسكندرية وإنطاكية وبرغام، لقد كان الناس في كل مكان
يتكلمون اللغة العامة نفسها ، وهي إغريقية مبسطة متنضدة على الآرامية أو
الإيطالية ، وكان الناس يرتدون الملابس نفسها ، ويتناولون وجباتهم في وضعية
الاستلقاء ، ويمارسون العبادات نفسها ، فلقد أعطت الإسكندرية للمنطقة كلها
إيقاع حياتها العقلية ، ورغم معارضة " كاتون " الشيخ الذي بقي متمسكا
بمغالطة تاريخية لعهود مضت ، فإن المدينة الرعوية لريموس ورومولوس قد وظفت
لخدمة إيزيس المصرية وسيبيل ( عشتار بلاد الأناضول ) .
إن
أحياء روما الجميلة ، والميادين والأسواق التي شيدت متعاقبة ، كانت على
صورة مدن مصر أو آسيا الصغرى ، فبينما أخذ الإغريق قبلهم الخط المستقيم
للعصور الكبرى من الهندسة الشرقية ، فإن روما التي جاءت متأخرة قد استوحت
أكثر من العالم الجديد ، وقد أخذت من العمارة الآرامية الطابع المنحني
المضاعف ، وعقود القباب المتعددة ، والقناطر ذات الأقواس الكاملة .
لقد
أضحت القبة هي السمة المميزة للمباني العامة ، وقد توصلوا حتى بناء عقد
القبة نصف الدائري المطابق نموذجيا للقبة البابلية ، إن هذه الأساليب أعطت
سعة ومجالا كبيرا للإبداع في المنشآت الرومانية التي كانت حتى ذلك الوقت
ضيقة ، إن المسافر الذي ينطلق من شواطئ الفرات أو ضفاف النيل ، لم يكن يشعر
بالغربة مطلقا عندما يصل إلى روما ، لقد كانت المساكن الخاصة منسوخة طبق
الأصل عن النماذج التقليدية الآرامية ؛ فالمسكن مؤلف من باحة داخلية كبيرة
مزينة بأعمدة في الواجهة ، ينفتح عليها البهو الكبير والغرف الأخرى .
إن
السكنى مع وجود باحة داخلية هي فكرة لا يمكن أن تخطر ببال أحد ، غير شعب
يعيش تحت سماء قليلة المطر ، فالعامة من سكان إيطاليا الشمالية كانوا
ينطوون داخل جدرانهم المغلقة ، إن العربي في القرن العشرين ليجد في البيوت
الرومانية في عصر القياصرة بالتأكيد ما يلائم ذوقه لأنها كانت آرامية من
حيث الطابع ، والبناء والفرش ، إن وجود عدد كبير من المهندسين ومن معلمي
البناء والتزيين والزخرفة السوريين أمر مؤكد منذ وقت مبكر في روما ولعل
أشهرهم أبولودوريوس الدمشقي .
إنه
ليس صحيحا أن الشعب الإيطالي كان كله يستفيد من هذا الترف ، أو أنه كان
يحظى بجزء من الدخل المالي كدخل الفرسان ودخل النبلاء ، إن الشعب لم يكن
معزولا فقط ، وإنما صار عديم الجدوى بسبب هبوط أسعار العقارات ، وضعف الأجر
اليومي ، لقد جرِد أبناء الشعب من كل مسؤولية سياسية لأن التصويت كان
تصويت ما يسمى بتصويت دافعي الضرائب ، وكان مقتصرا على أصحاب النقود
الرنانة ، لقد كان أبناء الشعب في بطالة ، وكانوا بحكم هذه البطالة مهيئين
للخدمة العسكرية ، التي لم يكن فيها ما يمنع الاحتفاظ بهم مدى الحياة ، فمن
كان يحكم روما إذن ؟ الجواب : إنهم الغرباء ، وطبقة صغيرة من النبلاء
الذين كانوا يتلقون المعونات المالية بإفراط من رجال المصارف الآسيوية ،
الذين جعلوا منهم ألعوبة ، فقد كان هؤلاء يعيشون في دوائر مغلقة ، لا
يديرون سوى بعض المكاتب الوزارية التي كانوا يعتبرونها ملكهم الشخصي .
إننا
لا نجد صعوبة في إيجاد نماذج مشابهة تماما في عالمنا المعاصر .. ورغم
الأزمات التي هزت روما إلا أن روما بقيت خاضعة لسياسة الشركات التجارية
والمالية التي نسميها اليوم بالشركات المتعددة الجنسيات .
إن
روما كانت في المحصلة تعيش وتفكر وتعمل ووجهها متجه نحو الشرق ، وكان بعض
المتعصبين يستنكرون هذا الانجذاب والتأثر ويعتبرونه خيانة للقيم الموروثة ،
وكان بعضهم يسخر من الرحلات التي تنظم إلى الشرق ، ومن الحجيج الذين يحجون
إلى مصر ، وإلى معابد ممفيس ، وإلى معبد آمون ، ويهزأ من أولئك الذين
يجلبون معهم التعاويذ أو الماء المبارك .
إن
التوجه إلى الشرق صار حلم كل أصحاب النفوذ ، ولقد أثر ذلك في سلوك
الأغنياء ، والضباط ، والمثال على ذلك دور ( ماريوس ) في الحرب النوميدية
في شمال إفريقيا ، حيث وقف مع الملك المغربي بوكوس الذي كان يتنازع مع
جوغورتا ، الذي وقف معه آخرون من الجيش الروماني ، إن الجيش الروماني بشقيه
استخدم كعناصر مأجورة مقابل المال ، وعندما ربح بوكوس توسعت مملكة المور (
المغاربة ) ، ولكنها تضمنت نتيجة أخرى وهي الهيبة والمال اللذان حصل
عليهما ماريوس ، الذي عين رغم غيابه قنصلا في روما وألحقت به بلاد الغال ،
وحصل بعد ذلك بأشهر على التمجيد وعلى استقبال النصر القنصلي .
وقد
بقي مصير وأمل روما معلقا به ، لقد ساعد المال والذهب الإفريقي في هذا
الشرف ، الشرف الذي قاد إلى الحصول على تقدير آسيا ، والسعي للوصول إلى
منابع الحضارة بكل جلالها ، وتلقي الاستقبال في البلاطات والمجالس الشرقية
المثيرة ، وللحصول على جزء من المعرفة الإنسانية والإلهية ، لذلك غادر
ماريوس عندما قيم وضعه بأموال بوكوس ، وبالنصر العسكري إلى آسيا ، وكذلك
فعل ضابطه سيلا ، الذي قام بنفس العمل ألا وهو الذهاب إلى الشرق .
ويمكن
أن ينطبق ذلك على يولوس قيصر ، فالسؤال لماذا قام يوليوس قيصر بحملته على
بلاد الغال ؟ جوابه : لكي يستحق الذهاب إلى الشرق أي إلى مصر.
وهكذا
فليس هناك من قنصل أو ديكتاتور أو إمبراطور روماني استطاع تجاوز هذه
الفريضة، وإن الجري باتجاه الشرق صار مشهدا مسرحيا بين بومبي ، وقيصر ،
اللذان بقيا ضمن تحالف وثيق بين روما ومصر ضد السلوقيين .
إن
طموحات المتريدات السادس أوباتور ملك البونط ( البحر الأسود ) الذي استطاع
في فترة ما أن يستولي على آسيا الصغرى وينزل منها إلى شاطئ اليونان قد
أقلق البطالمة في مصر أكثر مما أقلق السلوقيين في سوريا القريبة ، لأن
هؤلاء كانوا يتهيؤون لتقديم يد المساعدة القوية له ، وتدخل هؤلاء
البطالمة وشارك بومبي الروماني من جانبه في المعارك دون أن يكون له الدور
الحاسم ؛ لأن المتريدات نفسه كان قد فر ثم انتحر عام 63 ق.م ، ليس لهزيمة
عسكرية وإنما لأن ابنه " فارناس " تمرد عليه وتسلم قيادة الجيش .
إننا
نقرأ في العبارات الرنانة المفخمة لشيشرون ، وهو المدافع عن البومبيين ما
يدل على أن الهدف الواضح في مشروع حملة بومبي هو الرغبة في الحصول على
المال والمجد اللذان بفضلهما دخل ضمن الحكومة الثلاثية إلى جانب قيصر
وكراسوس عام 60 ق.م ، واستحق لقب الأسياتيكوس .
ولكن
قيصر كان يفكر أيضا في مصر منذ عام 65 ق.م ، في الوقت الذي لم يكن سوى
قيِم مدينة ( قاض بلدي ) وقد تم اقتراحه – مبعدا – في بعثة استثنائية لدى
بلاط البطالمة .
وكان
قد رأى بومبي وقد غادر إلى الشرق بدلا منه ، عندها أراد أن يقوم بغزوة -
بأسرع ما يمكن - للحصول على المجد ، وليصبح المفاوض الجدير بآسيا .
لقد ذهب إلى بلاد الغال عام 59 ق. م مع حفنة من الرجال ليعود بالنصر كما تذكر المعجزة الرومانية .
إن
قراءة متأنية في كتاب " الغالي الجميل " لتفيدنا بأن قيصر هذا لم يكن
سوى مستأجر عند الإدوين ، وهم السادة الحقيقيون للغال ، وصانعوا عملية
التوحيد . لقد كانت حرب الغال مسرحية انتخابية أكثر منها غزوة ملحمية مثيرة
، وكانت تتناسب مع ذلك العصر ، فلقد سمحت لقيصر أن يعود إلى روما مكللا
بهالة النصر ، ومزودا بالثروات الأساسية ، ومستعدا للقيام بالعملية الشرقية
الكبرى .
وعندما
تأكد قيصر من تعاطف البطالمة انطلق يتعقب بومبي وجماعته ، إلى أن دحرهم في
معركة فارسال في تساليا ، ولجأ غريمه بومبي إلى خليج ليسبوس ، وإلى شواطئ
كيليكيا ، وعبر من هناك إلى مصر ، ولكن لسوء حظه أن رسل قيصر كانوا قد
سبقوه إلى هناك ، فلم يكد ينزل إلى البر حتى ألقي القبض عليه بواسطة فرقة
من الجند كان في عدادها بعض الرومان ، وضربت عنقه بناء على أمر من الملك
البطلمي ، ثم قام قيصر بعدها بالحج إلى أنقاض طروادة تمجيدا وولاء لأسلافه
الآلهة ، قبل أن يسلك سبيله إلى مملكة البطالمة في مصر .
وهناك
قام بالنزول إلى قبر الإسكندر وانحنى أمام جثمانه ، واستقبل كأمير في
البلاط المصري ، ثم تزوج من كليوباترا أخت الملك ، وبقي في مصر قرابة عشرة
أشهر تلقى خلالها علوم الجغرافيا والفلك ، واطلع على علوم السحر والتنجيم
متهيئا لمركزه المستقبلي كملك ، وقد أسبغ عليه الكهنة الكبار بركاتهم ،
وبدت الأسرة البطلمية مستعدة لأن ترى في هذا القائد المرتزق تابعا مميزا
لها ، شريطة أن ينخرط في حرب شاملة ضد السلوقيين ، الخصوم الألداء للبطالمة
.
وهكذا
وضعت خلال سنة 47 ق.م في الإسكندرية - بين قيصر وقائد أركان الجيش
المصري - خطة معركة دقيقة التفاصيل ، تشدد على السيطرة على إمبراطورية
الإسكندر من الأطلسي حتى الهندوس ، وما أن وقعت المعاهدة حتى صار بإمكان
قيصر أن يعود إلى روما ، وكان قد فضل أن يرسل كليوباترا قبله إلى روما
محملة بمهامه ، بينما يأخذ هو طريق ليبيا وتونس وإسبانيا يرافقه الأسطول
المصري مدمرا في طريقه بقايا جيش بومبي في تابسوس وفي موندا .
وعندما
عاد إلى روما عام 45 ق.م كانت تبدو عليه الهيبة والسلطة ، والأفكار
الخلفية كأمير من الشرق وكحبر أعظم ، وقنصل ، وقاض ، ومالك للصفات
الإمبراطورية ، وقد انتخب في اليوم الخامس عشر من شباط عام 44 ق.م
ديكتاتورا مدى الحياة متمسكا بأصوله الإلهية ( مقلدا الشرق ) وأحاط نفسه
بنظام تشريعات يشبه نظام تشريعات الإسكندرية .
وفتح
له رجال المصارف المصريين حسابات غير محدودة . حتى إن " سيتون " يدعي بأن
القيصر تلقى مباشرة من البطالمة مبلغ 6000 تالنت ( التالنت = 5500 فرنك
ذهبي ) ولأول مرة في التاريخ الروماني قامت الورشات بسك العملة الذهبية ،
إن الكلام عن سيطرة رومانية على مصر طرح متناقض يدعو إلى السخرية ، فبدءا
من عام 44 ق.م الميلاد بدأ القيصر يتهيأ للوفاء بالتزاماته ، ويخلص الشرق
من السلوقيين ، وذلك بمهاجمتهم من الشمال بينما يقوم المصريون بالهجوم
عليهم من الجنوب ، لقد قام بتحريك ما يقرب من 100000 مقاتل ( وسط أزمة
بطالة سببها تهدم بنية إيطاليا واليونان الاقتصادية ) - وبسبب الاقتصاد
المصرفي للشرق أمكن أن يكون هناك معين لا ينضب من المتطوعين - .
ولما
تأكد القيصر من تحالف آسيا الصغرى ودولة البونط وأرمينيا ( في كيليكيا )
معه وهي القوى التي قامت بالتحرك من جانبها ، سلك القيصر طريق الدانوب
وتراقيا ، فالأناضول ليقيم اتصالا مع القوات السورية الجنوبية والمصرية ،
وهذا ما كان سيحل بالإمبراطورية السلوقية ، لولا أن قامت مؤامرة في 15 آذار
عام 44 ق.م بقيادة بروتوس أدت إلى مقتل القيصر ، وهكذا أخمد بروتس في
الضربة نفسها الحرب وهدم المخطط الكبير لقيصر . وبما أن مقتل القيصر قد
سبقته ثورة في سوريا ، وهي الثورة التي انضم إليها الضباط البومبيون
القدامى خدمة للسلوقيين ، فإنه يمكن التساؤل فيما إذا لم يكن هؤلاء الضباط
هم المحرضون على مؤامرة بروتس وقتل القيصر ، إن حياة القيصر قد أضفي عليها
تمجيد أسطوري مازالت أصداؤه تتردد ، غير أن حياة القيصر وموته لم يكونا
كافيين لتعديل الأحداث التي مارست التحكم فيها الحتميات الاقتصادية
والجغرافية ، والتطور الثقافي للشرق .
إن
" أوكتاف أوغست " وارث قيصر وابنه المتبنى قد قادته الأوامر نفسها نحو مصر
، ونحو كليوباترا التي كانت قد أتيحت له فرصة لقائها مرات عدة في روما في
بيت أبيه ، ولقد تجددت المنافسة السابقة بين بومبي وقيصر في صراعهما للجري
نحو الشرق بعد موت القيصر وذلك بين أوكتاف وأنطوان ( أنطونيو ) ضابط القصر ،
ولقد قامت إنطاكية بتمويل عمليات جيش البومبيين الذي يقوده بروتس وكاسيوس ،
ولكن التعيسان قتلا في معركة فيليبس في مكدونيا في معركة فيلبي عام 42 ق.م
تحت ضربات القيصريين الذين تدعمهم الإسكندرية وبرغام القادرتان على تمويل
مثل هذه الحروب ، وتقاسم أوكتاف وأنطوان المهام ، فأخذ المصريون أنطوان
إليهم وأنزلوه في البلاط حيث كان ولمدة خمس سنوات نوعا من المعتمد العسكري ،
يطوف في الشرق البطلمي مرتديا اللباس الشرقي ، مؤديا العبادة لإيزيس
وأوزيريس . أما كليوباترا فقد كانت من طرفها تحكم غير أنها كانت مستاءة من
أنطوان لأنه كان يخالف تعليماتها خلال جولاته في مهام خاصة في فلسطين
وسوريا الجنوبية .
وكانت
تتساءل إن كان من الممكن أن يذهب أنطوان في التآمر عليها كملكة مأخوذا
بالدسائس التي يقودها الأرساسيد ( الفرثيون ) ، والسلوقيون ، والأرمن ،
والمدن الفلسطينية ، خاصة وأنه كان متأكدا من أن غريمه أوكتاف لا يمكنه
الحضور إلى مصر إلا بدعوة من المصريين أنفسهم ..
إن
من المؤكد أن أوكتاف الوريث المعين من قبل أبيه لم يكن ينظر بعين الرضى
إلى أنطوان الذي يزداد غنى في الشرق . ويستعد ربما لتقلد التاج . ولهذا جرت
بينهما معركة الأكتيوم عام 32 ق.م .
ويمكننا
قراءة قصة حياة أوكتاف ، كما رواها بنفسه في مدونة أنسير Ancyre المحفورة
على جدران معبد في غالاتيا Galatie القديمة في آسيا الصغرى . حيث يتكلم عن
حرب الأكتيوم ، لا عن حرب ضد مصر كما هو متعارف عليه ، ودون تحديد دقيق لها
.
إن
الظروف التي جرت فيها حرب الأكتيوم كانت أكثر غموضا . لقد كان الأسطول
المصري دون جدال سيد المتوسط ، ولا يعتبر الأسطول الروماني بالنسبة إليه
شيئا يذكر . فهل حصلت المعركة فعلا ؟ إن جميع مؤرخي الحوليات يجمعون على
القول : إن السفن المصرية قد تخلت عن أنطوان ، وحركت أشرعتها متجهة نحو
الجنوب ، وهم يكررون بإجماع أن كليوباترا وهي تنتظر قدوم أوكتاف قد رفضت أن
تستقبل أنطوان الذي عاد مجروحا من هذه المعركة الزائفة .وعندما نزل أوكتاف
إلى الإسكندرية استقبل على أنه ابن القيصر بالتبني ، كما استقبل الإسكندر
من قبله ، لا كصديق فقط ، وإنما كوريث للتاج ، وكمؤتمن على المشاريع
الشرقية لوالده ، وعلى التكريس نفسه الذي تلقاه والده من قبل الكهنة الكبار
ومن الملكة نفسها ، وعين لكي يخلف البطالمة .
إن
المؤرخين الكلاسيكيين يتحدثون عن إلحاق مصر بالإمبراطورية الرومانية . إن
هذا خطأ فادح ، فقد قبل أوكتاف أن يحكم مصر التي أفسحت له المجال شخصيا ،
وحرمته على أعضاء مجلس الشيوخ وعلى الإداريين ، وكان كونه غريبا أمر لا
يزعج الكهنة الكبار في شيء ، وهم الحامون الحقيقيون للملكية ، فالبطالمة
أنفسهم من أصل أجنبي .إن المصارف والاقتصاد ، والتجارة المصرية كانت تطغى
لدرجة عالية على السياسات الراهنة ، بحيث أن الملك المصري أيا كان ، له
مكانة رمزية أكثر منها مستبدة .
وأخيرا
لأن رئيس الدولة المصرية لم يكن إلا الناطق بلسان الآلهة المصرية التي
كانت هي السيدة والحاكمة الحقيقية للسماء والأرض . وبقيت مصر هي " مملكة
الإله " . إن أوكتاف لم يتم تقبله فيها كروماني ، وإنما كصورة عن الإله
معتمرا العمرة المصرية ، ومحاطا بالصيغ الهيروغليفية ، وموقرا تحت اسم (
ملك مصر العليا والسفلى ، ابن رع وحامل التاج ) .
وقد
حملت المدن المصرية : دندرة ، وفيليه ، وأسوان ، وطيبة نقوشه ورموزه
الكهنوتية . لقد نقل أوكتاف هذه العبادة الإمبراطورية إلى روما ، وأصبحت
روما صورة عن مصر ليس في دينها وثقافتها فحسب ، وإنما في بنيتها السياسية
أيضا .
إن
الإمبراطورية التي أسسها أوكتاف لم تكن نتيجة تطور داخلي لجمهورية شيشرون و
كاتون . إنها كانت من وحي مصري ، وذات طبيعة ملكية على غرار ملكية مصر ،
ولا علاقة لها البتة بالعادات الريفية البلدية لروما . لقد رسخت منذ عهد
أوكتاف ملكية الحق الإلهي. ودعي الإمبراطور ( قيصر بن الإله ) ، وأمير مجلس
الشيوخ ، وأوغست ( أي المقدس ) .
إنه
قائد الجيوش ، والقنصل ، والمدافع عن حقوق الشعب مدى الحياة . وقد مجد في
حياته على مذبح الأضحيات ، ورفع رسميا إلى مرتبة الآلهة بمرسوم تأليه من
مجلس الشيوخ . وأسبغ الطابع الأسطوري الروحاني على الديانة القديمة . وتدخل
الكهنة الآسيويون ، والمصريون المحميون من الإمبراطور في التعليم الكهنوتي
، مما جعل المسيحية تجد لها بسرعة المناخ والعقلية المستعدة لتقبلها .إن
قوة روما لم تكن قوة رومانية في الحقيقة إلا بالاسم ، ولم تكن غربية الطابع
إلا بحكم الجغرافيا فقط إن هذه الطبيعة قد تبدو ملتبسة ، إلا أنها في
أعيننا واضحة بدءا من دخول قيصر ، وابنه أوغست ، ومع سيطرة الثقافة المصرية
والاقتصاد المصري .
المصدر : مقتطفات من الفصل الثامن " روما مستعمرة مصرية "من كتاب التاريخ الحقيقي للعرب تأليف بيير روسي ترجمة علي فاضل