د/ أحمد عبد الحميد عبد الحق*
إن
الأصل في طبيعة الإنسان هو الإيمان بالله عز وجل ؛ وذلك لأن الإيمان وُجد
بوجوده ، بمعنى أن الإنسان وُجد على الأرض مؤمنا مسلما ، وأما الكفر أو
الشرك فقد طرأ عليه بعد ذلك نتيجة سهيه واتباعه لنزغاته وشهواته ، وهذا ما
يلاحظ في قصة خلق الإنسان الأول ـ آدم عليه السلام ـ إذ نطق بالوحدانية لله
عز وجل بمجرد إتمام خلقه ، كما يفهم أيضا من قول النبي محمد ـ صلى الله
عليه وسلم ـ : " كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ
يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ .... " (1) .
وقد
عاش العرب من أولاد إسماعيل ـ عليه السلام ـ ردحا من الزمن مسلمين متبعين
لملة أبيهم إبراهيم ـ عليه السلام ـ حتى إذا دبت بينهم الفرقة اضطروا
للانسياح في الأرض ، وخرجت كل قبيلة من مكة ومعها حجر من الكعبة لتعظمه
بتعظيمها ، يقول هشام بن محمد الكلبي حدثنا أبي وغيره أن إسماعيل بن
إبراهيم " صلى الله عليهما " لما سكن مكة وولد له بها أولاد كثير حتى ملأوا
مكة ونفوا من كان بها من العماليق، ضاقت عليهم مكة ووقعت بينهم الحروب
والعداوات وأخرج بعضهم بعضاً، فتفسحوا في البلاد والتماس المعاش ... وكان
الذي سلخ بهم إلى عبادة الأوثان والحجارة أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن إلا
احتمل معه حجراً من حجارة الحرم، تعظيماً للحرم وصبابةً بمكة ، فحيثما حلوا
وضعوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة، تيمناً منهم بها وصبابةً بالحرم وحبا له
، وهم بعد يعظمون الكعبة ومكة، ويحجون ويعتمرون، على إرث إبراهيم وإسماعيل
" عليهما السلام " ...
ثم
تطور الأمر بالعرب من مجرد التقديس لتلك الحجارة إلى عبادتها ، يقول هشام
بن محمد الكلبي : " ثم سلخ ذلك بهم إلى أن عبدوا ما استحبوا، ونسوا ما
كانوا عليه، واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره ، فعبدوا الأوثان،
وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم من قبلهم ، وانتجثوا ما كان يعبد قوم نوحٍ "
عليه السلام " منها، على إرث ما بقي فيهم من ذكرها ، وفيهم على ذلك بقايا
من عهد إبراهيم وإسماعيل يتنسكون بها: من تعظيم البيت، والطواف به، والحج،
والعمرة، والوقوف على عرفة ومزدلفة، وإهداء البدن، والإهلال بالحج والعمرة -
مع إدخالهم فيه ما ليس منه... فكانت نزار تقول إذا ما أهلت: لبيك اللهم
لبيك! لبيك لا شريك لك! - إلا شريك هو لك تملكه وما ملك! ويوحدونه
بالتلبية، ويدخلون معه آلهتم ويجعلون ملكها بيده.
يقول
الله " عز وجل " لنبيه " صلى الله عليه وسلم " : " وما يؤمن أكثرهم بالله
إلا وهم مشركون " . أي ما يوحدونني بمعرفة حقي إلا جعلوا معي شريكاً من
خلقي.
وكانت عك إذا خرج أهلها حجاجاً قدموا أمامهم غلامين أسودين من غلمانهم، فكانا أمام ركبهم ،
فيقولان:
نحن غرابا عك! فتقول عك من بعدهما :عك إليك عانيه، عبادك اليمانية، كيما
نحج الثانية! وكانت ربيعة إذا حجت فقضت المناسك ووقفت في المواقف، نفرت في
النفر الأول ولم تقم إلى آخر التشريق ".
وقد
ذُكر أن أول من تولّى إثم انحراف العرب وانزلاقهم إلى تلك الهاوية من
الشرك المقيت هو عمرو بن ربيعة ، حيث نصّب الأوثان وسيّب السائبة، ووصل
الوصيلة ، وبحر البحيرة ، وهي الأمور التي ذكرها المولى عز وجل في قوله :"
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا
حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ
وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ "( 2)..
وذلك
أنه أتى منطقة البلقاء بالشام فوجد أهلها يعبدون الأصنام، فقال: ما هذه؟
فقالوا : نستسقي بها المطر ونستنصر بها على العدو ، فسألهم أن يعطوه بعضها ،
ففعلوا فقدم بها مكة ونصبها حول الكعبة ، ثم سعت كل قبيلة لاتخاذ صنم خاص
بها أو مجموعة أصنام ، فاتخذت قريش وخزاعة إسافاً ونائلة ، واتخذت هذيل
سواعا ، واتخذت كلب ودا بدومة الجندل ، واتخذت مذحج وأهل جرش يغوث ،
واتخذت خيوان يعوق ، واتخذت حمير نسراً..
بالإضافة
إلى الأصنام الثلاثة الشهيرة في الجزيرة العربية كلها ، والتي كان أقدمها
مناة الذي كان منصوبا على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد، بين المدينة
ومكة ، وكانت العرب جميعا تعظمه وتذبح حوله ، ولكن كان أشدهم تعظيما له هم
الأوس والخزرج ، إذ كانوا يحجون فيقفون مع الناس المواقف كلها، ولا يحلقون
رءوسهم، فإذا نفروا أتوه فحلقوا رءوسهم عنده وأقاموا عنده، لا يرون لحجهم
تماما إلا بذلك ..
ولم
يزل على ذلك حتى أتم الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم فتح مكة سنة 8
للهجرة فبعث علياً ـ رضي الله عنه ـ إليه فهدمه ، وأخذ من خزانته سيفين كان
الحارث بن أبي شمرٍ الغساني ملك غسان أهداهما له.
وثانيها
صنم " اللات" بالطائف، وكان أحدث بنيانا من مناة، وكان عبارة عن صخرةً
مربعةً، وكانت قريش وجميع العرب تعظمه أيضا ، وقد أسس عليها منارة مسجد
الطائف فيما بعد .
وقد ظل أهل ثقيف يعظمونه حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة فهدمه وحرقه بالنار.
وثالثها
هو صنم " العزى" وهو أحدث من اللات ومناة ، وكان أعظم الأصنام عند قريش ،
وكانوا يزورونه ويهدون له ويتقربون عنده بالذبح ، وقد أرسل النبي صلى الله
عليه وسلم خالد بن الوليد ـ رضي الله عنه ـ بعد فتح مكة فهدمه ، ثم قال
عليه الصلاة السلام : "ولا عزى بعدها للعرب! أما إنها لن تعبد بعد اليوم! "
.
وقد
ذكر الله عز وجل تلك الأصنام الثلاثة في قوله تعالى : " أَفَرَأَيْتُمُ
اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى أَلَكُمُ
الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِيَ
إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ
اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا
تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى " .(3) .
هذا وفي قصة الأصنام وتفشيها بين العرب ثلاث دلائل وعظات :
ـ
الأول أن الفرقة والشجار هما أول شؤم يدخل على دين الإنسان ، بدليل أن أول
انحراف للبشرية عن الدين الصحيح كان بسبب شجار ابني آدم ( هابيل وقابيل )
حيث لجأ الثاني لقتل الأول فباء بإثمه وإثم من يقتل بعده إلى يوم الدين ،
وكانت بوادر الشقاق بين أولاد إسماعيل عليه السلام أول خطوة لابتعادهم عن
حنيفية إبراهيم عليه السلام .
ـ
الثاني أن التعلق بقشور الدين وتجزئته من أول مبادئ الانحراف عنه ؛ فالعرب
كان أول انحرافهم هو تقديسهم لحجارة البيت الحرام على حساب البيت نفسه ،
مع إن تلك الحجارة ما هي إلا لبنات شقوها هم بأنفسهم من الجبال فأنّى تكون
لها القدسية ؟!!..
ـ
الثالث أن تمسك المشرك ببعض مناسك الإسلام والمحافظة عليها لا يخرجه من
حيز الشرك ويدخله الإسلام ؛ لأن العرب مع تمسكهم ببعض موروث إبراهيم عليه
السلام ومحافظتهم على مناسك الحج والعمرة إلا أن الله عز وجل وصفهم بالشرك
ونفى عنهم صفة الإيمان ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
*مدير موقع التاريخ الإلكتروني
1 ـ صحيح البخاري :ج 5 / ص 182.
2 ـ المائدة/103..
3 ـ النجم/19-23..
المصدر : موقع التاريخ