السيد محمود شكري الالوسي
قد
حصر بعض العلماء ما قيل بوجوب الحد به في سبعة عشر شيئا: قسم متفق عليه،
وقسم مختلف فيه، فمن المتفق عليه الردة والحرابة ما لم يتب قبل القدرة،
والزنا، والقذف به، وشرب بيت سواء أسكر أم لا، والسرقة.
ومن
المختلف فيه جحد العارية، وشرب ما يسكر كثيره من غير بيت، والقذف يعني
بالزنا، والتعريض بالقذف، واللواط ولو بمن يحل نكاحها وإتيان البهيمة،
والسحاق، وتمكين المرأة القرد وغيره من الدواب من وطئها، والسحر وترك
الصلاة تكاسلا، والفطر في رمضان، وهذا كله خارج عما تشرع فيه المقاتلة كما
لو ترك قوم الزكاة، ونصبوا لذلك الحرب.
وأصل
الحد ما يحجز بين الشيئين فيمنع اختلاطهما، وحد الدار ما يميزها ،وحد
الشيء وصفه المحيط به المميز له عن غيره، وسميت عقوبة الزاني ونحوه حدا
لكونها تمنعه المعاودة ولكونها مقدرة من الشارع، وتطلق الحدود ويراد بها
نفس المعاصي كقوله تعالى:" تلك حدود الله فلا تقربوها ". وعلى فعل فيه شيء
مقدر: ومنه " ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه ".
وكأنها لما فصلت بين الحلال والحرام سميت حدودا ، فمنها ما زجر عن فعله، ومنها ما زجر من الزيادة عليه والنقصان منه.
والمقصود
هنا بيان ما كان من العقوبات عند العرب أيام الجاهلية ، والمقصود من العرب
عرب الحجاز ونجد وأضرابهم ، لا عرب جميع أنحاء الجزيرة ، فقد كان عرب
اليمن منهم يهود ومنهم نصارى ومنهم غير ذلك ، وكذلك عرب الشام والعراق
كانوا على نحل شتى، وعرب الحجاز ونجد وأضرابهم كانت لديهم أحكام كثيرة لم
ينسخها الإسلام، كما ذكر ذلك الدهلوي في كتابه حجة الله البالغة، ولابن
هشام الكلبي كتاب في ذلك سماه كتاب ما كانت الجاهلية تفعله ووافق حكم
الإسلام، وهو كتاب لم أظفر به.
ومن العقوبات التي كانت عندهم قطع يد السارق ، فقد كان ذلك معلوما عند العرب قبل الإسلام ونزل القرآن بقطع السارق فاستمر الحال فيه.
وقد
نقل العسقلاني في شرح البخاري أن ابن الكلبي عقد بابا لمن قطع في الجاهلية
بسبب السرقة في كتاب المثالب ،وذكر قصة الذين سرقوا غزال الكعبة فقطعوا في
عهد عبد المطلب جد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. وذكر من قطع في السرقة
عوف بن عبد بن عمرو بن مخزوم، ومقيس بن قيس بن عدي بن سعد أبن سهم وغيرهما
،وأن عوفا السابق لذلك، ومخزوم هذا ابن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن
غالب، ومخزوم أخو كلاب بن مرة الذي نسب إليه بنو عبد مناف.
أقول
ذكر في شفاء الغرام أن عبد المطلب علق الغزالين في الكعبة فكان أول من علق
المعاليق بالكعبة ، ثم إن الغزالين سرقا وابتيعا من قوم تجار قدموا مكة
بخمر وغيرها فاشتروا بثمنها خمرا. وقد ذكر أن أبا لهب مع جماعته نفذت خمرهم
في بعض الأيام وأقبلت قافلة من الشام معهم خمر فسرقوا الغزال واشتروا بها
خمرا ، وطلبها قريش وكان أشدهم طلبا لها عبد الله بن جدعان ، فعلموا بهم
فقطعوا بعضهم وهرب بعضهم ، وكان فيمن هرب أبو لهب هرب إلى أخواله من خزاعة
فمنعوا عنه قريشا، ومن ثم كان يقال لأبي لهب سارق غزال الكعبة. أهـ
وفي
كتاب تاريخ مكة للأزرقي بعد أن ذكر حفر عبد المطلب بئر زمزم وما وجده
مدفونا فيها من السيوف والغزالين وغير ذلك قال : ضرب عبد المطلب الأسياف
على باب الكعبة وضرب فوقه أحد الغزالين من الذهب ، فكان ذلك أول ذهب حليته
الكعبة ، وجعل الغزال الآخر في بطن الكعبة في الجب الذي كان فيها يجعل فيه
ما يهدى إلى الكعبة.
وكان
هبل صنم قريش في بطن الكعبة على الجب ، فلم يزل الغزال في الكعبة حتى أخذه
النفر الذين كان من أمرهم ما كان، قال وهو مكتوب أخذه وقصته في غير هذا
الموضع. أهـ
ومنه يعلم أن المسروق غزال واحد لا كما ذكر في شفاء الغرام وتفصيل هذه القصة في التاريخ وكتب السير.
ومن
عقوباتهم وحدودهم قتل الزاني - والزنا كان عندهم من أعظم المنكرات وأفظع
المعاصي وأشنعها ، فلذلك جعلوا عقوبته إزهاق الروح والقتل الذي هو أعظم
الحدود ، ومن شواهد ذلك ما كان من النعمان بن المنذر من قتل المتجردة
والمنخل العبدي لما اطلع على ما كان من أمرهما ، وأراد قتل النابغة
الذبياني لما تعرض في قصيدته الدالية المشهورة لوصف حرمه ، ثم اعتذر منه
بعدة قصائد فعفا عنه، وقصة صخر الشاعر الشهير لما توسم في زوجته الميل إلى
غيره وكان مريضا وهي مشهورة..
وذوات
الرايات لم يكن من العرب بل كن إماء ، وكان مذهبهم في الإماء غير مذهبهم
في الحرائر، ولما أخذ الشارع البيعة عليهن شرط عليهن أن لا يزنين ، فقالت
هند بنت أبي سفيان متعجبة : وهل تزني الحرة؟ وكان النكاح في الجاهلية على
عشرة أنحاء.
ولابن
الكلبي كتاب في مناكح أزواج العرب ، ولو كان الزنا عندهم مباحا لم يكن عقد
النكاح عندهم مشروعا ، والشعر المشتمل على حد الزنا بالقتل كثير لو
تتبعناه واستقريناه لم يسعه المقام.
ومن
عقوباتهم القصاص - وهو من أحكام الجاهلية التي وافقت حكم الإسلام على
تفصيل لم يكن في الجاهلية ، كالقتل العمد وشبه العمد والخطأ وشبه الخطأ ،
ولكل حكم مذكور في كتب الفقه والحديث والتفسير.
ومن
شواهد القصاص عندهم قولهم المشهور الذي هو أبلغ كلام عندهم وأوجزه وهو
القتل أنفى للقتل، غير أن القصاص عندهم لم يكن كما ورد في الشريعة النفس
بالنفس والعين بالعين والسن بالسن والجروح قصاص ، بل ربما قتلوا بالواحد
جمعا ، ومن شواهد ذلك قصة كليب المشهورة ، والهامة عندهم طائر يتولد من روح
المقتول يكون على قبره ، ولم يزل يصيح اسقوني اسقوني حتى يؤخذ بثأره.
ومن
عقوباتهم إعطاء دية القتيل - وهي مائة من الإبل وكانوا يأنفون من أخذها ،
ويعيرون من يرضى بها وفي ذلك شعر كثير منه قول مرة بن عداء الفقعسي:
رأيت موالي الآلي يخذلونني .. . على حدثان الدهر إذ يتقلب
فهلا أعدوني لمثلي تفاقدوا ... إذا الخصم انبرى مائل الرأس انكب
وهلا أعدوني لمثلي تفاقدوا ... وفي الأرض مبثوث شجاع وعقرب
فلا تأخذوا عقلا من القوم إنني ... أرى العار يبقى والمعاقل تذهب
المعاقل
من عقلت المقتول إذا أعطيت ديته ، وحكى الأصمعي صار دمه معقلة على قومه ،
أي صاروا يدونه وكان أخذ الدية عندهم من أشد العار كما سبق.
قال قائلهم:
إذا صب ما في الوطب فاعلم بأنه ... دم الشيخ فاشرب من دم الشيخ أو دعا
يقول : إن الذي تشربونه من لبن الإبل التي أخذتموها في دية شيخكم إنما هو دمه تشربونه.
وقال آخر لرجل أخذ الدية تمرا:
فظل يصون التمر والتمر منقع .. . بورد كلون الأرجوان سبائبه
كأنك لم تسبق من الدهر ليلة .. . إذا أنت أدركت الذي كنت تطلبه
يقول من أدرك ما طلبه من الثأر فكأنه لم يصب ، ولم يوتر ، وهذا بعث على طلب الدم ومثله ، غير أنه بعث على طلب المال:
كأن الفتى لم يعر يوما إذا اكتسى ... ولم يك في بؤس إذا ما تمولا
وقال آخر في التنفير عن أخذ الدية:
فلو أن حيا يقبل المال فدية ... لسقنا لهم سيلا من المال مفعما
ولكن أبى قوم أصيب أخوهم .. . رضا العار فاختاروا على اللبن الدما
معنى
البيت الأول لو كانت معاملتنا مع حي يرى قبول المال فداء لأرضيناه بالمال
الكثير، ومعنى البيت الثاني امتنع قوم أصبنا صاحبهم من الرضا بالدنية ،
وآثروا طلب الدم على قبول الدية، وجعل اللبن كناية عن الإبل التي تؤدي عقلا
لأنه منها؛ أي أبوا أن يرضوا العار خطة لأنفسهم.
وقالت كبشة أخت عمرو بن معد يكرب:
أرسل عبد الله إذ حان يومه .. . إلى قومه لا تعقلوا لهم دمي
ولا تأخذوا منهم أفالا وأبكرا .. . واترك في بيت بصعدة مظلم
ودع عنك عمرا إن عمرا مسالم ... وهل بطن عمرو غير بشر لمطعم
فإن أنتم لم تثأروا واتديتم .. . فامشوا بآذان النعام المصلم
ولا تردوا إلاَّ فضول نسائكم .. . إذا ارتملت أعقابهن من الدم
قولها
أرسل عبد الله الخ - إنما تكلمت به على أنه أخبار عما فعله عبد الله وهو
أخو عمرو وغرضها تحضيضهم على إدراك الثأر، ويقال عقلت فلانا إذا أعطيت
ديته ، وجعل هذا المعقول الدم لأن المراد مفهوم ، كأنه قال لا تأخذوا بدل
دمي عقلا.
وقولها ودع عنك عمرا - أي خالف عمرا أن هو مال إلى الصلح ورغب في أخذ الدية.
وقولها ولا تأخذوا الخ. الأفال جمع أفيل وهو الذي أتت عليه سبعة أشهر أو ثمانية من أولاد الإبل.
فإن
قيل لم ذكرت الأفال والأبكر وما يؤدى في الديات لا يكون منهما قلت أرادت
تحقير الديات كما يقول الرجل إذا أراد تحقير أمر خلعة فاز بها إنسان: إنما
أعطي خرقا وفلوسا. وأن كانت الثياب المعطاة كسوة فاخرة والمال المحقر جائزة
سنية.
وقولها وهل بطن عمرو غير بشر لمطعم - تزهيد في الدية كما ورد في الخبر: هل بطن أبن آدم إلاَّ شبر في شبر لما أريد تزهيده في الدنيا.
وقولها
واترك في بيت بصعدة مظلم - صعدة مخلاف من مخاليف اليمن ويسميها غيرهم
المزالف وهم أهل الحجاز؛ ويسميها أهل نجد المذارع شبهوها بمذارع الأديم وهي
كرعانه وواحدة المذارع مذرعة وواحدة المزالف مزلفة وإنما جعل قبره مظلما
لأنهم كانوا يزعمون أن المقتول إذا ثأروا به أضاء قبره فان أهدر دمه أو
قبلت ديته يبقى قبره مظلما.
وقولها
واتديتم - معناه قبلتم الدية ، يقال وديته فاتدى ، كما يقال وهبته فاتهب
أي قبل الهبة، وفي الحديث أسممت أن لا أتهب إلاَّ من قرشي أو أنصاري: ومثله
قضيت الدين فاقتضاه أي قبله وتوفره.
وقولها
فمشوا بآذان الخ. أي امشوا وضعف الفعل للتكثير ، ومن روى فمشوا بضم الميم
فمعناه امسحوا ، ويقال للمنديل المشوش ، والمعنى أن لم تقتلوا قاتلي وقبلتم
ديتي فامشوا أذلاء بآذان مجدعة كآذان النعام، ووصف النعام بالمصلم تصغيرا
لها وأن كانت خلقة، يقول كأنكم مما تعيرون ليست لكم آذان تسمعون بها فامشوا
بغير آذان أي صمنا عما يتكلم الناس به من عيبكم. واختلف في النعام فقيل
أنها كلها صلم وقيل أنها صم لا تسمع شيئا وليس لها آذان، وإنما تعرف ما
تحتاج إليه بالشم.
وقولها
ولا تردوا إلاَّ فضول نسائكم الخ، قال أبو رياش تقول إذا قبلتم الدية فلا
تأنفوا بعدها من شيء كما تأنف العرب واغشوا نساءكم وهن حيض فقد كان من
عادتهم إذا وردوا المياه أن يتقدم الرجال ثم العضاريط والرعاء ، ثم النساء
إذا صدرت كل فرقة عنه فكن يغسلن أنفسهن وثيابهن ويتطهرن آمنات مما يزعجهن ،
فمن تأخر عن الماء حتى تصدر النساء فهو الغاية في الذل: وجعل النساء
مرتملات بدم الحيض تفظيعا للشأن ، وارتمل إذا تلطخ بالدم والفضول ههنا
بقايا الحيض وسمي الغشيان وردا مجاز؛ وقال أبو محمد الإعرابي معناه لا
تردوا المواسم بعد أخذ الدية إلاَّ وأعراضكم دنسة من العار كأنكم نساء حيض،
وهذا كما قال جرير لا تذكروا حال الملوك فأنكم بعد الزبير كحائض لم تغسل.
وقال جميل العذري من أبيات:
يقولون لي أهلا وسهلا ومرحبا .. . ولو ظفروا بي ساعة قتلوني
كيف ولا توفى دماؤهم دمي ... ولا مالهم ذو ندهة فيدوني
الندهة كثرة المال، وقال قوم الندهة العشرون من الإبل والمائة من الضأن والألف من الصامت ويقال وداه يديه وديا ودية.
وقوله ولا توفى دماؤهم دمي - أي دماؤهم كلهم لا تفي بدمي يقال أوفى به ووفى وأوفاه يوفيه إيفاء إذا قضى دينه على الوفاء.
وقال زيادة الحارثي من أبيات:
يقول رجال ما أصيب لهم أب .. . ولا من أخ اقبل على المال تعقل
يقول
يشيرون علي بأخذ الدية ، ولم يصبهم ما أصابني ، ولعلهم لو أصيبوا بما أصبت
به لم تقنعهم الدية؛ ومحوه المثل السائر ويل للشجي من الخلي أي لا يساعده
على شجاه ويلومه.
وقال الحكم بن زهرة:
قوم إذا ما جنى جانيهم آمنوا .. . من لؤم احسابهم أن يقبلوا قودا
يقول
هم قوم إذا جر واحد منهم جريرة آمن جميعهم لدقة أصولهم ولؤم احسابهم أن
يؤاخذ كلهم بها. فكيف الواحد منهم كأنهم لا يعدون بوآء بقتيل والقود أن
يقتل القاتل بالقتيل فيقال اقدته به. وإذا أتى الرجل صاحبه بمكروهة فانتقم
منه بمثلها قيل استقادها منه.
وفي
كتاب أعلام الموقعين لأبن القيم أن الجناية على النفوس والأخطاء تدخل من
الغيظ والحنق والعداوة على المجني عليه وأوليائه مالا تدخله جناية المال
ويدخل عليهم من الغضاضة والعار واحتمال الضيم والحمية والتحرق لأخذ الثأر
مالا يجبره المال أبدا حتى أن أولادهم وأعقابهم ليعيرون بذلك، ولأولياء
القتيل من القصد في القصاص وإذاقة الجاني وأوليائه ما أذاقه للمجني عليه
وأوليائه ما ليس لمن حرق ثوبه أو عقرت فرسه؛ والمجني عليه موتور هو
وأولياؤه فان لم يوتر الجاني وأولياؤه ويجرعون من الألم والغيظ ما يجرعه
الأول لم يكن عدلا. قال وقد كانت العرب في جاهليتها تعيب على من يأخذ الدية
ويرضى بها من درك ثأره وشفاء غيظه كقول قائلهم يهجو من أخذ الدية من
الإبل:
وأن الذي أصبحتم تحلبونه . .. دم غير أن اللون ليس بأشقرا
وقال جرير يعير من أخذ الدية فأشترى بها نخلا:
أن ابلغ بني حجر بن وهب .. . بأن التمر حلو في الشتاء
ومثل قول جرير قول الفرزدق:
أكلت دما أن لم ادعك بضرة .. . بعيدة مهوى القرط طيبة النشر
يريد بالدم الدية.
وقال آخر:
خليلان مختلف شكلنا .. . أريد العلاء ويبغي السمن
أريد دماء بني مالك .. . وراي المعلى بياض اللبن
وهذا
وأن كانت الشريعة قد أطلته وجاءت بما هو خير منه واصلح في المعاش والمعاد
من تخيير الأولياء بين إدراك الثأر ونيل التشفي وبين أخذ الدية فأن القصد
به أن العرب لم تكن تعير من أخذ بدل ماله ولم تعده ضعفا ولا عجزا البتة
بخلاف من أخذ بدل دم وليه فما سوى الله بين الأمرين في طبع ولا عقل ولا
شرع. أهـ
المصدر : مجلة لغة العرب العراقية