دخل عمرو بن معدي كرب الزبيدي على عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فقال عمر: أخبرني من أجبن من لقيت وأحيل من لقيت وأشجع من لقيت.
فقال
: يا أمير المؤمنين خرجت مرة أريد الغارة، فبينما أنا سائر، إذا بفرس
مشدود ورمح مركوز، وإذا رجل جالس كأعظم ما يكون الرجال خلقاً، وهو محتبي
بحمائل سيفه ، فقلت: خذ حذرك فإني قاتلك – فأقبل علي وقال : ومن أنت؟ - قلت
: أنا عمرو بن معدي كرب الزبيدي. .! فشهق شهقة فمات.
فهذا يا أمير المؤمنين أجبن من رأيت.
وخرجت
مرة حتى انتهيت إلى حي، فإذا أنا بفرس مشدود ورمح مركوز، وإذا صاحبه في
وهدة يقضي له حاجة ، فقلت: خذ حذرك، فإني قاتلك – فقال : ومن أنت؟ فأعلمته
بي ، فقال: يا أبا ثور، ما أنصفتني، أنت على ظهر فرسك وأنا على الأرض،
فأعطني عهداً أنك لا تقتلني حتى أركب فرسي فأعطيته عهداً ، فخرج من الموضع
الذي كان فيه، واحتبى بحمائل سيفه، وجلس ، فقلت: ما هذا؟ فقال: ما أنا
براكب فرسي، ولا بمقاتلك، فإن نكثت عهدك، فأنت أعلم بناكث العهد ، فتركته
ومضيت.
فهذا يا أمير المؤمنين أحيل من رأيت. . .
وخرجت
مرة حتى انتهيت إلى موضع كنت أقطع فيه الطريق ، فلم أرد أحداً، فأجريت
فرسي يميناً وشمالاً، وإذا أنا بفارس فلما دنا مني فإذا هو غلام حسن، نبت
عذاره، من أجمل ما رأيت من الفتيان وأحسنهم ، وإذا هو قد أقبل من نحو
اليمامة ، فلما قرب مني سلم علي، فرددت عليه السلام وقلت: من الفتى؟ - قال :
الحارث بن سعد فارس الشهباء - فقلت: خذ حذرك فإني قاتلك - فقال: الويل لك،
فمن أنت؟ - قلت : عمرو بن معدي كرب الزبيدي - قال: الذليل الحقير، والله
ما يمنعني من قتلك إلا استصغارك ، فتصاغرت نفسي يا أمير المؤمنين، وعظم
عندي ما استقبلني به، فقلت: دع هذا، وخذ حذرك، والله لا ينصرف إلا أحدنا،
فقال: ثكلتك أمك، فأنا من أهل ما أثكلنا فارس قط - قلت: هو الذي تسمعه -
قال: اختر لنفسك، فإما أن تطرد لي، وإما أن اطرد لك فاغتنمتها منه وقلت:
اطرد لي فاطرد وحملت عليه، فظننت أني وضعت الرمح بين كتفيه، فإذا هو صار
حزاماً لفرسه، ثم عطف علي، فقنع بالقناة رأسي وقال: يا عمرو خذها إليك
واحدة ولولا أني أكره قتل مثلك لقتلتك.
فتصاغرت
نفسي عندي، وكان الموت يا أمير المؤمنين أحب إلي مما رأيت، فقلت: والله
لا ينصرف إلا أحدنا فعرض علي مقالته الأولى، فقلت له: اطرد لي فاطرد، فظننت
أني تمكنت منه فاتبعته
حتى
ظننت أني وضعت الرمح بين كتفيه، فإذا هو صار لبباً لفرسه، ثم عطف علي
فقنع بالقناة رأسي وقال: خذها إليك يا عمرو ثانية ، فتصاغرت إلي نفسي وقلت:
والله لا ينصرف إلا أحدنا ، فاطرد لي ، فاطرد حتى ظننت أني وضعت الرمح بين
كتفيه، فوثب عن فرسه فإذا هو على الأرض فأخطأته، ثم استوى على فرسه
واتبعني حتى قنع بالقناة رأسي، وقال: خذها إليك يا عمرو ثالثة، ولولا
كراهتي لقتل مثلك لقتلتك - فقلت: أقتلني أحب إلي، ولا تسمع فرسان العرب
بهذا - فقال: يا عمر وإنما العفو عن ثلاث، وإذا تمكنت منك في الرابعة
قتلتك، وأنشد يقول:
وكدت إغلاظاً من الإيمان .. . أن عدت يا عمروا إلى الطعان
لتجدن لهب السنان ... أو لا فلست من بين شيبان
فهبته
هيبة شديدة ، وقلت له: إن لي إليك حاجة - قال: وما هي؟ - قلت: أكون صاحباً
لك - قال: لست من أصحابي، ويحك أتدري أين أريد؟ - قلت: لا والله - قل:
أريد الموت الأحمر عياناً - قلت: أريد الموت معك - قال: امض بنا.
فسرنا
يوماً أجمع حتى أتانا الليل ، ومضى شطره فوردنا على حي من أحياء العرب ،
فقال لي: يا عمرو في هذا الحي الموت الأحمر ، فإما أن تمسك علي فرسي فأنزل
وآتي بحجاتي، وإما أن تنزل وأمسك فرسك فتأتيني بحاجتي، فقلت: بل انزل أنت،
فأنت أخبر بحاجتك مني ، فرمى إلي بعنان فرسه، ورضيت والله يا أمير المؤمنين
بأن أكون له سايساً.
ثم
مضى إلى قبة فأخرج منها جارية لم تر عيناي أحسن منها حسناً وجمالاً،
فحملها على ناقة ثم قال: يا عمرو إما أن تحميني وأقود الناقة، أو أحميك
وتقودها أنت - قلت: لا بل أقودها وتحميني أنت فرمى إلي بزمام الناقة، ثم
سرنا حتى أصبحنا، قال: يا عمرو - قلت: ما تشاء؟ - قال التفت فانظر، هل ترى
أحداً، فالتفت فرأيت جمالاً فقتل: أغذذ السير. قال:
انظر،
إن كانوا قليلاً فالجلد والقوة وهو الموت الأحمر، وإن كانوا كثيراً فليسوا
بشيء قلت: هم أربعة أو خمسة - قال: أغذذ السير ففعلت ووقف وسمع وقع حوافر
الخيل عن قرب فقال: يا عمرو كن عن يمين الطريق، وقف، وحول وجه دوابنا إلى
الطريق ففعلت ووقفت عن يمين الراحلة ووقف عن يسارها ودنا القوم منا، وإذا
هم ثلاثة نفر شابان وشيخ كبير، وهو أبو الجارية والشابان أخواها، فسلموا
فرددنا السلام ، فقال الشيخ: خل عن الجارية يا ابن أخي - فقال: ما كنت
لأخليها ولا لهذا أخذتها - فقال لأحد بنيه: اخرج إليه، فخرج وهو يجر رمحه
فحمل عليه الحارث وهو يقول:
من دون ما ترجوه خضب الزايل ... من فارس ملثم مقاتل
ينمي إلى شيبان خير وائل ... ما كان يسري نحوها بباطل
ثم
شد على ابن الشيخ بطعنة قد بها صلبه فسقط ميتاً ، فقال الشيخ لابنه الآخر:
اخرج إليه فلا خير في الحياة على الذل، فأقبل الحارث وهو يقول:
لقد رأيت كف كانت طعنتي .. . والطعن للقرم الشديد الهمة
والموت خير من فراق خلتي . .. فقتلتي اليوم ولا مذلتي
ثم
شد على ابن الشيخ بطعنة سقط منها ميتاً، فقال له الشيخ: خل عن الظعينة يا
ابن أخي فإني لست كمن رأيت – فقال : ما كنت لأخليها ولا لهذا قصدت - فقال
الشيخ: يا ابن أخي اختر لنفسك، فإن شئت نازلتك، وإن شئت طاردتك فاغتنمها
الفتى ونزل، فنزل الشيخ وهو يقول:
ما ارتجي عند فناء عمري . .. سأجعل التسعين مثل شهر
تخافني الشجعان طول دهري ... إن استباح البيض قصم الظهر
فأقبل الحارث وهو ينشد:
بعد ارتحالي وطال سفري .. . وقد ظفرت وشفيت صدري
فالموت خير من لبان الغدر . .. والعار أهديه لحي بكر
ثم
دنا فقال له الشيخ: يا ابن أخي إن شئت ضربتك فإن أبقيت فيك بقية فاضربني.
وإن شئت فاضربني فإن أبقيت في بقية ضربتك فاغتنمها الفتى وقال: أنا أبدأ -
فقال الشيخ: هات فرفع الحارث يده بالسيف فلما نظر الشيخ أنه قد أهوى به إلى
رأسه ضرب له بطنه بطعنة قد منها أمعاءه ووقعت ضربة الفتى على رأس عمه،
فسقطا ميتين. . . فأخذت يا أمير المؤمنين أربعة أسياف وأربعة أفراس، ثم
أقبلت إلى الناقة فقالت الجارية: يا عمرو إلى أين ولست بصاحبتك ولست لي
بصاحب، ولست كمن رأيت. فقلت: اسكتي - قالت: إن كنت لي صاحباً فأعطني سيفاً
أو رمحاً فإن غلبتني فأنا لك وإن غلبتك قتلتك - فقلت: ما أنا بمعطٍ ذلك ،
وقد عرفت أهلك وجرأة قومك وشجاعتهم فرمت نفسها عن البعير، ثم أقبلت تقول:
أبعد شيخي ثم بعد إخوتي .. . يطيب عيشي بعدهم ولذتي
وأصبحن من لم يكن ذا همة .. . هلا تكون قبل ذا منيتي
ثم هوت إلى الرمح وكادت تنزعه من يدي ، فلما رأيت ذلك منها خفت أن ظفرت بي قتلتني، فقتلتها.
فهذا يا أمير المؤمنين أشجع من رأيت.