منتديات الدفاع عن التاريخ
أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم اذا كانت هذه زيارتك الاولى للمنتدى ندعوك للتسجيل في منتدياتنا
منتديات الدفاع عن التاريخ
أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم اذا كانت هذه زيارتك الاولى للمنتدى ندعوك للتسجيل في منتدياتنا
منتديات الدفاع عن التاريخ
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


منتديات الدفاع عن التاريخ
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 الطب النبوي بين الوحي والاجتهاد

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Admin
Admin



عدد المساهمات : 367
نقاط : 14958
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 09/04/2012
العمر : 31
الموقع : فلسطين

الطب النبوي بين الوحي والاجتهاد Empty
مُساهمةموضوع: الطب النبوي بين الوحي والاجتهاد   الطب النبوي بين الوحي والاجتهاد Icon_minitimeالأربعاء 2 مايو - 19:17:24

د. محمود مهدي محمود

الأنبياء
معصومون من الكذب قبل النبوة وبعدها، ورسول الله "صلى الله عليه وسلم"
كان يلقَّب قبل مبعثه بالصادق الأمين، فقد عُصِم من كل ما يحطُّ من
قَدْرِه، فنشأ متحليًّا بمكارم الأخلاق، وحين أمره ربه أن يَصْدَع بالدعوة
ويُنْذِرَ عشيرته الأقربين خرج حتى صعد الصفا فهتف: «يا صباحاه»، فقالوا:
من هذا؟. فاجتمعوا إليه، فقال لهم: «أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلا تخرج من صفح
هذا الجبل (1) أكنتم مصدقي؟». قالوا: ما جربنا عليك كذبًا قَطّ(2). وإذا
كان هذا حاله قبل البعثة، فقد كان بعدها الأسوةَ الحسنةَ، والهادي الذي
بلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة ما نقص منها ولا زاد فيها شيئا عما جاءه عن
ربه.


وحديث رسول الله "صلى الله عليه وسلم" الذي تحدث به في حياته يمكن تقسيمه قسمين:

1
ـ قسم موحىً به يتعلق بالعقيدة والشريعة وضبط العبادات، وتبليغ ما
أُنْزِلَ إليه من ربه وغيرِها من أمور الدين ، وهذا لم ينطق النبي "صلى
الله عليه وسلم" فيه عن هَوَىً، فلا يجوز أن يَتَطَرَّق إليه شكٌّ أو
طعنٌ.



قسم اجتهادي ليس من باب تبليغ الرسالة، وهذا القسم يتعلق بالكثير من أحوال
الناس والحياة ومستجداتهما اليومية(3). وأغلب هذا القسم يعتمد على الرأي
والظنّ الذي يمكن أن يطابق الواقع كما يمكن أن يخالفه، والمخالفة هنا لا
تقدح(4) في عصمة النبي "صلى الله عليه وسلم" ، ولا تقلل من مكانته، ولا
تُنقص من منزلته "صلى الله عليه وسلم" ؛ لأنها وقعت عن اجتهاد في أمر غيرِ
موحىً به، ولا تعمُّد في المخالفة فيه، ومن أمثلة هذا القسم حديث رافع بن
خديج "رضي الله عنه" قال: قدم نبي الله "صلى الله عليه وسلم" المدينةَ
وهم يؤبِّرون النخل، يقولون: يلقِّحون النخل، فقال: «ما تصنعون؟» قالوا:
كنا نصنعه. قال: «لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرًا». فتركوه، فنقصت، قال:
فذكروا ذلك له، فقال: «إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به،
وإذا أمرتكم بشيء من رَأْيٍ فإنما أنا بشر»(5). وفى رواية أَنَسٍ: «أنتم
أعلم بأمر دنياكم»، وفى رواية طلحة: «إنْ كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني
إنما ظننت ظنًّا فلا تؤاخذوني بالظن، ولكني إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا
به، فإني لا أكذب على الله «عز وجل (6).


وعَنْ
جُدَامَةَ الأَسَدِيَّة أنها سمعتْ رسول اللَّه "صلى الله عليه وسلم"
يقول: «لقد هَمَمْتُ أَن أنهى عن الغَيْلَةِ (7) حتى ذُكِّرْتُ أَن الروم
وفارس يفعلون ذلك فلا يضرُّ أَولادهم»(Cool.


إن
النبي "صلى الله عليه وسلم" يقول في حديث التأبير: «إنما أنا بشر»(9)
وكررها مرتين للتوكيد، ولم يقل: إنما أنا نبي أو رسول؛ ليلفت نظرنا إلى
الجانب البشري في شخصيته الخالي من عصمة الوحي، والذي يحتمل الصواب وغيره،
والإمام مسلم حين بوَّب للحديث قال: باب وجوب امتثال ما قاله شرعا دون ما
ذكره من معايش الدنيا على سبيل الرأي، وهذا معناه أن النبي "صلى الله عليه
وسلم" كان يتحدث عن كثير من أمور معايش الحياة برأيه، والتي لا يجب فيها
الامتثال والطاعة؛ لأن الامتثال التام والإذعان الكُلِّي إنما يكون للأمور
الشرعية، وكاد ينهى النبي "صلى الله عليه وسلم" عن الغيلة لظنه أنها تضر
بلبن الأم فيؤثر ذلك سلبًا على الأطفال الرضّع، وحين بُيِّن له عدم ضررها
بالتجربة من خلال قوم يفعلون ذلك فلا يضر أولادهم أمسك عن النهي الذي لو
كان تكليفا إلهيًّا ما تراجع عنه رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ، فدلَّ
ذلك على أن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" كان يقول في بعض الأمور
برأيه.


ومنه
ما حكاه ابن إسحق: أنه "صلى الله عليه وسلم" لما نزل بأدنى مياه بدر قال
له الحُباب بن المنذر: أهذا منزل أنْزَلَكَه الله ليس لنا أن نتقدمه، أم
هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: «لا، بل هو الرأي والحرب والمكيدة»، قال:
فإنه ليس بمنزل، انهض حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله، ثم نغوّر ما
وراءه من القُلُب، فنشرب ولا يشربون، فقال: «أشرت بالرأي»(10)، وفعل ما
قاله.


إن
النبي "صلى الله عليه وسلم" في هذه الأحاديث قد فصل الوحيَ عن الاجتهادِ
الشخصيِّ، والعلمِ الظنيِّ، فقوله: «أنتم أعلم بأمر دنياكم» وقوله: «فإني
إنما ظننت ظنًّا فلا تؤاخذوني بالظن» وجوابه على سؤال الحُباب بالنفي «لا»،
وقوله «حتى ذُكِّرت» يشير إلى أن هناك مساحةَ اجتهاد شخصية لا علاقة للوحي
بها، يمكن فيها وقوع الصواب وعدمه.


ومن
حديث رسول الله "صلى الله عليه وسلم" أحاديث ذكر فيها العديد من الأدوية
المفردة، والأمراض التي تُدَاوَى بها كَبَوْلِ الإبِل(11) الذي يُعَالِج
الاستسقاء، وإلية الشاة الأعرابية التي تعالج عِرق النَّسا(12)،
والقُسْط(13) الذي يدواي ذاتَ الجَنْبِ(14)، والِحنَّاء التي تشفي
الشقيقة(15) وغيرها، وقد جمع العديد من «علماء الحديث» هذه الأحاديث
الشريفة في مصنفات أُطلق عليها الطب النبوي(16).


وقد
اتخذ كثير من المتربحين بتجارة النباتات الطبية، والمشتغلين بتحرير
الوصفات الشعبية، هذه الأحاديث وسيلة تيسر لهم تحقيق مآربهم، فتمحَّلوا(17)
تفسيرات وتعليلات ونتائجَ لم تقصد منه "صلى الله عليه وسلم" ، ووضعت
أحاديثُ كثيرة في هذا المجال، حتى جعلوا لكل داءٍ مفردٍ أو مركَّبٍ دواءً
نبويًّا مؤكَّدَ الشفاء، وضُلِّل الناس بعبارات رنانة، وإعلانات جذابة،
تستنزف أموالهم، وتقضي في النهاية على آمالهم في الشفاء، فهل هذه الأحاديث
تنتمي إلى الوحي الذي لا يأتيه الباطل، ولا يتطرق إليه الشك، فنبني عليها
استشفاءنا، أم هي من باب اجتهاد النبي "صلى الله عليه وسلم" الشخصي الذي
يحتمل الصواب وغيره، فيؤخذ منه ويرد؟.


إن
هذا السؤال شغل بال العلماء من زمن بعيد، فانقسموا إزاءه فِرَقًا وأدْلَى
كل فريق منهم بدلوه، وباستقصاء آرائهم يمكن القول إن هناك ثلاثة آراء رئيسة
تشمل تفريعات وتفصيلات لا داعي للتطرق إليها هنا، وهذه الآراء هي:


الرأي
الأول: على رأس القائلين به ابن القيِّم القائل بأن طب النبي "صلى الله
عليه وسلم" متيقنٌ قطعي إلهي صادرٌ عن الوحي ومشكاة النبوة وكمال العقل،
ولا ينكر عدم انتفاع كثيرٍ من المرضى بطب النبوة: لأن الانتفاع به إنما يقع
لمن تلقاه بالقبول واعتقاد الشفاء به وكمال التلقي له بالإيمان والإذعان،
فطب النبوة لا يناسب إلا الأبدان الطيبة، كما أن شفاء القرآن لا يناسب إلا
الأرواح الطيبة، والقلوب الحية(18). فابن القيم جعل القرآن وأحاديث الرسول
"صلى الله عليه وسلم" الطبية علاجين شافيين للأبدان الطيبة التي تتلقاهما
بالإيمان والإذعان فقط.


الرأي
الثاني: وهو على النقيض من الأول، وبه جهر ابن خلدون حيث قال: وللبادية من
أهل العمران طب يبنونه في غالب الأمر على تجربة قاصرة على بعض الأشخاص
متوارَثًا عن مشايخ الحي وعجائزه، وربما يصح منه البعض، إلا أنه ليس على
قانون طبيعي ولا على موافقة المزاج، والطب المنقول في الشرعيات من هذا
القبيل، وليس من الوحي في شيء، وإنما هو أمر كان عاديا للعرب ووقع في ذكر
أحوال النبي "صلى الله عليه وسلم" من نوع ذكر أحواله التي هي عادة
وجبلة(19) لا من جهة أن ذلك مشروع على ذلك النحو من العمل فإنه "صلى الله
عليه وسلم" إنما بعث ليعلمنا الشرائع، ولم يبعث لتعريف الطب ولا غيره من
العاديات، اللهم إذا استعمل على جهة التبرك وصدق العقد الإيماني فيكون له
أثر عظيم في النفع وليس ذلك في الطب المزاجي، وإنما هو من آثار الكلمة
الإيمانية(20).


الرأي
الثالث: وهو رأي جمهرة من العلماء الذين وقفوا موقفا وسطا، فقالوا: إن بعض
هذه الأحاديث مصدره الوحي لاشتمالها على أحكام بالحل والحرمة، أو لإخبارها
بخبر معجز كالأحاديث التي عُنِيَتْ ببيان حكم التداوي والرُّقَى، وكحديثه
"صلى الله عليه وسلم" عن جناحَي الذبابة، وبعضها اجتهاد محض من النبي
"صلى الله عليه وسلم" بُنِيَ على معرفة شخصية وثقافة طبية خلَّفتها
الملاحظة والمشاهدة، كحديثه عن العلاج ببول الإبل والقُسط والحنَّاء
وغيرها. وفيها يقول القاضي عياض: فمثل هذا وأشباهه من أمور الدنيا التي لا
مدخل فيها بعلم ديانة ولا اعتقادها ولا تعليمها يجوز عليه فيه وقوع الخطأ،
وليس في هذا نقيصة ولا محطة؛ لأنها أمور اعتيادية يتقنها من جربها وجعلها
همه، وشغل نفسه بها، والنبي "صلى الله عليه وسلم" كان مشغول البال بمعرفة
الربوبية، ملآن الجوانح بعلوم الشريعة، مقيد البال بمصالح الأمة(21).


وبعد
استعراض هذه الآراء تبقى هناك عدة تساؤلات تحتاج لإجابة، فلعل في الإجابة
عنها ما يشفي الغليل، ويبل الصدى، هل كان "صلى الله عليه وسلم" طبيبا؟،
وإذا لم يكن طبيبا فمن أين استمد معلوماته الطبية؟، وهل عرف العرب قبل
الإسلام هذه الأدوية واستعملوها في علاجاتهم؟، وهل ما ورد ذكره من أدوية في
حديث رسول الله "صلى الله عليه وسلم" يصلح التداوي بها في كل زمان
ومكان؟، وما موقف الأطباء والصيادلة القدامى من الطب النبوي؟.


إن
رسول الله "صلى الله عليه وسلم" لم يكن طبيبا، ولم يكن ملمًّا بكل ما
يعرفه أطباء عصره(22)، بدليل أنه كان يحض الناس على الذهاب إلى الأطباء
المتخصصين ذوي المعرفة الشاملة والخبرة الكافية، رُوِيَ عن سعد، قال:
مَرضتُ مرضا، فأتاني رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم" يعودني، فوضع يده
بين ثَديَيَّ حَتَّى وَجَدتُ بَرْدَها على فؤادي، وقال لي: «إنَّكَ رجُلٌ
مَفْؤُود(23) فأْتِ الحارَثَ بنَ كَلدَةَ من ثَقِيفٍ، فإنَّه رجلٌ
يتطبَّبُ، فليأخُذ سبعَ تَمَراتٍ من عجوةِ المدينة، فليَجأْهُنَّ
بِنَواهنَّ، ثم لِيَلُدَّك بهن(24)» لو كانت وصية الرسول "صلى الله عليه
وسلم" لسعد كافية ما حمَّله في مرضه مشقة لقاء الحارث طلبا للعلاج،
والعلاج بالعجوة في الحديث علاج تكميلي لا أساسي، وإلا لاكتُفي به، كما كان
رسول الله "صلى الله عليه وسلم" نفسه يؤتى له بالأطباء إذا مرض، ولو كان
طبيبا أو كانت معرفته الطبية عامة وشاملة لوصف الدواء لنفسه، وما جيء له
بهم، فعن عروة بن الزبير قَالَ: قلتُ لعائشة: يا أُمَّ المؤمنين، لستُ
أَتَعَجَّبُ مِن بصرك بالشِّعْرِ، أقول: زَوْجَةُ رسول اللَّه "صلى الله
عليه وسلم" ، وابنة عَلَّامَةِ الناس، ولكن أَتَعَجَّبُ مِنْ بَصَرِكِ
بالطب، فقالت: يابنَ أُختِي، إنَّ رسول اللَّه "صلى الله عليه وسلم" لما
طعن في السنِّ سقم، فَوَرَدَتِ الوفود فَنُعِتَ له، فَمِن ثَمَّ (25)..


وكما
طُلبت الأطباء لرسول الله "صلى الله عليه وسلم" طَلَبها لصحابته، فعن
زيد بن أسلم أَنَّ رَجُلا أَصابه جرح، فاحتقن الدم، وإن رسول الله "صلى
الله عليه وسلم" دعا له رجلين من بني أَنْمَارٍ فقال: «أيكما أَطبّ؟»
فَقَال رجل: يا رسول الله، أَوَفي الطب خير؟ فقال: «إن الذي أنزل الداء
أنزل الدواء(26)».


أما
بالنسبة لمصادر معلومات رسول الله "صلى الله عليه وسلم" الطبية فمعلوم
أن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" لم يكن بمعزل عن الحياة الاجتماعية
العامة منذ نشأته، فقد كان يخالط الناس في العمل والسفر للتجارة وفي
أفراحهم وأتراحهم، كما كان يعود المرضى، ويسمع ويشاهد المتطببين وهم يصفون
أو يعدُّون لهم الأدوية، وكم من صديق وجار وقريب مر بوعكة صحية اقتضت طلب
العلاج فعولج أمامه، ورأى وسمع بما أفاد منها وما لم يفد، ولعله جرب بعضها
فكانت ذات فائدة، هذه المعلومات الطبية التي سمعها وشاهدها "صلى الله عليه
وسلم" اختزنتها ذاكرته، وصقلتها تجاربه الشخصية ثم صاغها نصحًا وإرشادا
لصحابته بأسلوبه النبوي البليغ الجامع للكَلِمِ.


أما
بخصوص معرفة العرب بهذه الأدوية فقد عرف العرب الأدوية النباتية
والحيوانية التي توفرت ببيئتهم واستخدموها في علاجاتهم، وهذا شاعرهم لبيد
يقول في التداوي ببول الإبل:


يَهْوِي إِلَى قَصَبٍ كَأَنَّ جِمَامَهُ ** سَمَلَاتُ بَوْلٍ أُغْلِيَتْ لِسَقِيْمِ(27)

وما
لم يكن موجودا عندهم جلبوه من خارج الجزيرة أثناء سفرهم للتجارة، كما أن
هذه الأدوية التي ذكرها النبي "صلى الله عليه وسلم" لم يقتصر استعمالها
على البيئة العربية وحدها، بل عرفها اليونان والهنود وتكلموا عنها كلاما
علميا كبيان مزاجها وفوائدها ومضارها، وصحيح أن الرسول "صلى الله عليه
وسلم" لم يطلع على ما كتبه ديسقوريدوس وجالينوس وغيرهما، وأن الطب عند
العرب لم يبلغ رتبة العلم المتقن، بل اقتصر على بعض المعلومات المكتسبة
بالاختبار. إلا إن الأمم المجاورة للعرب كانت على درجة من التمدن والتقدم
لاسيما في علوم الطب، وهناك من أطباء العرب من سافر ووقف على علوم هذه
الأمم وأفاد منها في طبه ومعالجاته، كالحارث بن كلدة، وشاهده الناس يداوي
بها، كما أن قليلين من العرب أفادوا من هذه المعلومات الطبية وأتوا بها إلى
بلادهم، رغبهم في هذا أحاديث الرسول في تعاطي بعض العلاجات.


وإذا
كان النبي "صلى الله عليه وسلم" قد حض صحابته على التداوي بالقُسط وبول
الإبل والحجامة وغيرها من الأدوية التي كانت معروفة مستعملة في بيئته، فلا
يلزم من نفعها في بيئته أن يعم نفعها كل البيئات، وفي كل الأزمنة، وبهذا
قال القرطبي: إن النبي إنما خَصَّ المذكورات لأنها أغلب أدويتهم وأنفع لهم
من غيرها بحكم العادة، ولا يلزم كونها كذلك في حق غيرهم ممن يخالفهم في
البلد والعادة والهوى، والمشاهدة قاضية باختلاف العلاج والأدوية باختلاف
البلاد والعادة. وحديث رسول الله «كلوا الزيت وادهنوا به فإنه طيب مبارك»
الأمر فيه إرشادي للإباحة والندب لمن قدر على استعماله ووافق مزاجه؛ فالدهن
في البلاد الحارة كالحجاز من أسباب حفظ الصحة وإصلاح البدن، وهو كالضروري
لهم، وأما في البلاد الباردة فضارّ وكثرة دهن الرأس به فيها خطر
بالبصر(28). وحديث الرسول "صلى الله عليه وسلم" في الحجامة: «إن في الحجم
شفاء» قال شارحه: أي من غالب الأمراض لغالب الناس في قطر مخصوص في زمن
مخصوص، هكذا فافهم كلام الرسول، ولا عليك من ضعفاء العقول، فإن هذا وأشباهه
يخرج جوابًا لسؤال معين يكون الحجم له من أنفع الأدوية ولا يلزم من ذلك
الاطراد(29).


وقوله
"صلى الله عليه وسلم" : «عليكم بأبوال الإبل البرية وألبانها» قال ابن
العربي: لا يمتنع أن تكون ألبان الإبل وأبوالها دواء في بعض الأحوال لبعض
الأمراض لبعض الأشخاص في بعض البلدان(30). والعلماء القدامى قصروا العلاج
على بول الجمل الأعرابي النجيب الذي يرعى نباتات صحراوية تكون ذات تأثير في
بوله كالشيح والقيصوم، وعليه فبول الجمل الذي يرعى في المزارع، أو الذي
يعيش في بيئة غير صحراوية، أو الذي لا يرعى مثل هذه النباتات لا يدخل في
الحكم(31).


إننا
لو افترضنا أن النبي "صلى الله عليه وسلم" ذكر حديثا في فضل السيف أو
القوس أو الرمح فهل معنى ذلك أن نتخلى عن البندقية أو الصاروخ أو المدفع أو
المخترعات الحربية الحديثة؟، كلا، لا يجوز التخلي عنها، مع الإقرار بوجود
فائدة محدودة لتلك الآلات القديمة، إلا أنه لا يمكن الاعتماد عليها في
مواجهة الآلة الحديثة، ولكن يبقى لها أثرها الفاعل في البيئة المشابهة
لبيئتها الأولى، وهكذا الأدوية.


أما
بخصوص موقف الأطباء والصيادلة القدامى من الطب النبوي، فالعجيب أن كل كتب
الطب والصيدلة التي طالعتها كالحاوي للرازي، والقانون لابن سينا، والمنهاج
لابن جزلة، والجامع لابن البيطار، والشامل لابن النفيس، والمعتمد لابن رسول
لم يرد بها ذكر مصطلح «الطب النبوي» الذي هو صناعة علماء الحديث قديما،
ولم يتضمن أيٌّ من هذه الكتب فصلا أو موضوعا عن الطب النبوي، كما أنهم لم
يعتمدوا على كتب الطب النبوي كمصدر من مصادرهم ، ودلالة هذا أن هؤلاء
الأطباء وهم مسلمون ويحبون الرسول "صلى الله عليه وسلم" وقرأوا أحاديثه،
لم يروا فيها ما رآه علماء الحديث كابن القيم وبعض شراح الحديث من إعجاز
طبي، وأنهم رأوا أنها وصايا طبية عامة في أغلبها، وأنها اجتهاد شخصي من
رسول "صلى الله عليه وسلم" لا يقلل من مكانته، بل يضيف إليها "صلى الله
عليه وسلم" بخبراته الشخصية وببلاغته إجلالا وتقديرا.


وختاما
فلابد من الجزم بأنه لا يمكن الاستغناء مطلقا عن الطب الحديث في طلب
الشفاء، بل له الأولوية في التوجه والقصد، وهذا لا يتنافى مع الشرع ولا
يتعارض مع السُّنة التي تحض على التماس العلاج عند الأطباء ذوي الخبرة
العامة والكفاءة التامة، كما يجب أن نعلم أن وصايا الرسول "صلى الله عليه
وسلم" الطبية لا تخلو من فوائد، لكن الأخذ بها ليس واجبا.


لا يمكن الاستغناء عن الطب الحديث في طلب الشفاء لأنه لا يتنافى مع الشرع

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

1 ـ صفح الحبل: وجهه أو جانبه.


الأنوار في شمائل النبي المختار: الحسين بن مسعود البغوي، تحقيق: إبراهيم
اليعقوبي، دار الضياء للطباعة والنشر، بيروت: 1409/1989: 1/12.


3ـ حجة الله البالغة: شاه ولي الله دهلوي، تحقيق: السيد سابق، دار الجيل، الطبعة الأولى، 1426/2005: 1/224 (بتصرف).

4ـ أي لا تعيب في عصمته ولا تقلل من شأنها.

5ـ أخرجه مسلم: باب وجوب امتثال ما قاله شرعا دون ما ذكره من معايش الدنيا على سبيل الرأي.

6ـ أخرجه الشاشي في مسنده: باب من روى عنه ابنه موسى بن طلحة.

7ـ الغيلة: أن يمس الرجل امرأته وهي تُرضع.

8ـ سنن أبي داود: كتاب الطب، باب في الغيل.

9ـ تلقيح النخل.

10ـ الروض الأنف: السهيلي، تحقيق: عبدالرحمن الوكيل، دار الكتب الإسلامية، 1410/1990: 5/98.

11ـ
يقول ابن جزلة: أجوده بول الجمل الأعرابي، وهو النجيب، وينفع الاستسقاء
والطحال مع لبن النوق. منهاج البيان: ابن جزلة، تحقيق: د. محمود مهدي،
المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، القاهرة، 1413/2010: 224.


12ـ
الاستسقاء: تجمع السائل بداخل جوف الصفاق من البطن. وعرق النسا: عرق يصل
من الورك إلى الكعب، أو هو ألم عصبي ذي صلة بالعصب الوركي.


13ـ
القسط ويسمى قسطس وكشط، وهو قطع خشبية تؤخذ من أشجار شبيهة بأشجار العود،
منه ما ينبت ببلاد العرب وهو الأبيض البحري، ومنه ما يجلب من الهند وهو
الأسود الخفيف. وذكر ابن جزلة أنه ينفع من عرق النسا ضمادا.: منهاج البيان:
662.


14ـ
ذات الجنب: مرض له حالتان: الأولى منهما تسمى بُرسام، وهو ذات الجنب الجاف
الناتج عن التعرض للبرد أو الإصابة بالأنفلونزا، وأعراضه: وجع ناخس
بالصدر، سعال مختلف الشدة، صداع، ارتفاع في درجة الحرارة، وغالبا ما تزول
هذه الحالة بعد أيام. الثانية: وتسمى ذات الجنب الانصبابي، ويحدث غالبا عقب
البُرسام إن لم يشف ويزول في حينه، حيث يتكون سائل مصلي بين ورقتي غشاء
الجنب، وتتفاوت كمية السائل حسب شدة الالتهاب، ويبدو على المريض ضيق النفس
والسعال الجاف والحمى العالية. وربما يرتشح بعض الدم إلى السائل المصلي
فيسمى المرض حينئذ ذات الجنب النزفي. المنصوري في الطب: الرازي، تحقيق:
د.حازم البكري، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، الكويت:
1408/1987. تعليقات المحقق: 656.


15ـ الشقيقة: هي الصداع النصفي.

16ـ
عرف الطب النبوي بأنه هو علم باحث عن الأحاديث النبوية الواردة في طب
المرضى، وممن ألف فيه: عبدالملك بن حبيب الأندلسي المالكي (ت: 238هـ)،
وأبوبكر أحمد بن أبي إسحاق بن إبراهيم بن أسباط الدينوري المعروف بابن
السني (: 363ه)، وأبونعيم الأصفهاني (ت: 432هـ)، وأبوالعباس جعفر بن محمد
المستغفري (ت: 432هـ)، أبوالحسن علي بن عبدالكريم الحموي علاء الدين الكحال
(ت:720هـ)، الحافظ شمس الدين الذهبي (ت: 748هـ)، الحافظ شمس الدين ابن قيم
الجوزية (ت:751 هـ)، جلال الدين السيوطي (ت: 911هـ)


17ـ أي تكلفوا في طلبها.

18ـ الطب النبوي: ابن القيم، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت: 28.

19ـ ما طبع عليه الإنسان.

20ـ مقدمة ابن خلدون: عبدالرحمن بن خلدون، دار العودة، بيروت، 1981: 391.

21ـ الشفا بتعريف حقوق المصطفى: أبوالفضل عياض اليحصبي، تحقيق علي محمد البجاوي، دار الكتاب العربي، بيروت، 1404/1984: 2/185.

22ـ
من الأطباء المشهورين الذين عاصروا النبي "صلى الله عليه وسلم" الحارث
بن كلدة وأبورمثة التميمي، ضِماد الأزدي، وشمردل بن قباب الكعبي، وابن خزيم
وغيرهم.


23ـ المفؤود: الذي أصيب فؤاده فهو يشتكيه.

24ـ أي فليدقهن. واللد: أن يؤخذ بلسانه فيمد إلى أحد شقيه، ويصب في الأخر الدواء. الحديث أخرجه أبوداود: باب في تمرة العجوة.

25ـ المعجم الكبير للطبراني:17 / 21.

26ـ مصنف ابن أبي شيبة:7 / 361.

27ـ
ومعنى سملات بول أغليت لسقيم: أي بقايا بول من أبوال الإبل التي يشربها
المرضى. انظر: شرح ديوان لبيد بن ربيعة العامري، تحقيق: د.إحسان عباس،
وزارة الإرشاد الكويتية، 1962: 116.


28ـ فيض القدير: المناوي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1415/1994: 1/90

29ـ السابق: 2/597.

30ـ السابق: 4/457.

31ـ السابق:4/447.

المصدر : مجلة الوعي الإسلامي
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://mazika.alhamuntada.com
 
الطب النبوي بين الوحي والاجتهاد
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات الدفاع عن التاريخ  :: السيرة العطرة المشرقة :: السيرة العطرة المشرقة-
انتقل الى: