الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد خاتم الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين .. وبعد ..
فقد
فرغنا في الحلقتين السابقتين من الحديث عن آدم عليه السلام ، وابني آدم
اللذين ورد ذكرهما في القرآن الكريم ، وفي هذه الحلقة نتحدث عن نبي الله
إدريس ـ عليه السلام ـ الذي جاء ذكره في قول الله عز وجل " وَاذْكُرْ فِي
الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا وَرَفَعْنَاهُ
مَكَانًا عَلِيًّا (1) ..
وقد
اختلف العلماء في تحديد الزمان والمكان الذي بُعث فيه ، وهل كان أول
الأنبياء بعد آدم ـ عليه السلام ـ أم سبقه نوح ـ عليه وسائر الأنبياء
الصلاة والسلام
، وهذا لا يعنينا في شيء ، ولن يترتب على معرفة أيهما أسبق كبير فائدة ،
فالمسلم مطالب بألا يبحث فيما لا يعود عليه أو على البشرية بالنفع في
الدنيا أو الآخرة ، وإنما يعنيا من قصة هذا النبي الصالح أن نقف عند قول
الله سبحانه وتعالى عنه : " ورفعناه مكانا عليا" وأن نتدبر في العمل الذي
جعله ينال هذه المنزلة ، ويصل به لتلك الرفعة ؛ كي نسعى للفوز بمثل منزلته ،
وأن نرقى بأنفسنا كما رقى هو ـ عليه السلام ـ وهو السبب الذي من أجله أمر
الله عز وجل نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يذكره ويذكرنا به فقال في
محكم آياته : " واذكر في الكتاب إدريس ".
وأما
عن الأمر الذي أوصله لتلك المنزلة العليا التي رفعه الله إليها فهو كونه "
صديقا نبيا " وبالطبع فإن موضوع النبوة اصطفاء إلهي لا اختيار للبشر فيه ، وقد انتهى هذا الاصطفاء وخُتم بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وكان جانب التأسي فيها له صلى الله عليه وسلم دوننا ..
وأما
الصفة الأخرى " الصدق " فهي مجال تأسينا ـ نحن ـ به ، فعلينا أن نتحرى في
التخلق بها ؛ حتى نرقى إلى ما نصبو إليه عند الله عز وجل ، مصداقا لقول
رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم : « إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِى إِلَى
الْبِرِّ ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِى إِلَى الْجَنَّةِ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ
لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا.." ( 2) .. وفي صحيح مسلم : " حتَّى
يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا " (3) ..
ولنعلم أن الصدق قبل أن يرفع من مكانة العبد في الآخرة فإنه يكون نجاة له في الدنيا ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " تحروا الصدق وإن رأيتم أن فيه الهلكة ، فإن فيه النجاة ، واجتنبوا الكذب وإن رأيتم أن فيه النجاة ، فإن فيه الهلكة "(4) ..
وجاء
في صحيح البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أَن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - قال : « بَيْنَمَا ثَلاَثَةُ نَفَرٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ
يَمْشُونَ إِذْ أَصَابَهُمْ مَطَرٌ ، فَأَوَوْا إِلَى غَارٍ ، فَانْطَبَقَ
عَلَيْهِمْ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ إِنَّهُ وَاللَّهِ يَا هَؤُلاَءِ
لاَ يُنْجِيكُمْ إِلاَّ الصِّدْقُ ، فَلْيَدْعُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ
بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ صَدَقَ فِيهِ ، فَقَالَ وَاحِدٌ مِنْهُمُ :
اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ لي أَجِيرٌ عَمِلَ لي عَلَى
فَرَقٍ مِنْ أَرُزٍّ ، فَذَهَبَ وَتَرَكَهُ ، وَأَنِّى عَمَدْتُ إِلَى
ذَلِكَ الْفَرَقِ فَزَرَعْتُهُ ، فَصَارَ مِنْ أَمْرِهِ أَنِّى اشْتَرَيْتُ
مِنْهُ بَقَرًا ، وَأَنَّهُ أتاني يَطْلُبُ أَجْرَهُ فَقُلْتُ : اعْمِدْ
إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ ، فَسُقْهَا ، فَقَالَ لي إِنَّمَا لي عِنْدَكَ
فَرَقٌ مِنْ أَرُزٍّ ، فَقُلْتُ لَهُ : اعْمِدْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ
فَإِنَّهَا مِنْ ذَلِكَ الْفَرَقِ ، فَسَاقَهَا ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ
أَنِّى فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا ، فَانْسَاحَتْ
عَنْهُمُ الصَّخْرَةُ ، فَقَالَ الآخَرُ : اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ
أَنَّهُ كَانَ لي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ ، فَكُنْتُ آتِيهِمَا
كُلَّ لَيْلَةٍ بِلَبَنِ غَنَمٍ لي ، فَأَبْطَأْتُ عَلَيْهِمَا لَيْلَةً
فَجِئْتُ وَقَدْ رَقَدَا وأهلي وَعِيَالِى يَتَضَاغَوْنَ مِنَ الْجُوعِ ،
فَكُنْتُ لاَ أَسْقِيهِمْ حَتَّى يَشْرَبَ أَبَوَاىَ ، فَكَرِهْتُ أَنْ
أُوقِظَهُمَا ، وَكَرِهْتُ أَنْ أَدَعَهُمَا ، فَيَسْتَكِنَّا
لِشَرْبَتِهِمَا ، فَلَمْ أَزَلْ أَنْتَظِرُ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ ،
فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّى فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِكَ ،
فَفَرِّجْ عَنَّا ، فَانْسَاحَتْ عَنْهُمُ الصَّخْرَةُ ، حَتَّى نَظَرُوا
إِلَى السَّمَاءِ ، فَقَالَ الآخَرُ : اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ
أَنَّهُ كَانَ لِي ابْنَةُ عَمٍّ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَىَّ ، وَأَنِّى
رَاوَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا فَأَبَتْ إِلاَّ أَنْ آتِيَهَا بِمِائَةِ
دِينَارٍ ، فَطَلَبْتُهَا حَتَّى قَدَرْتُ ، فَأَتَيْتُهَا بِهَا
فَدَفَعْتُهَا إِلَيْهَا ، فَأَمْكَنَتْنِى مِنْ نَفْسِهَا ، فَلَمَّا
قَعَدْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا ، فَقَالَتِ : اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تَفُضَّ
الْخَاتَمَ إِلاَّ بِحَقِّهِ ، فَقُمْتُ وَتَرَكْتُ الْمِائَةَ دِينَارٍ ،
فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّى فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِكَ فَفَرِّجْ
عَنَّا ، فَفَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَخَرَجُوا » ( 5) ..
وقد جاء في بعض الآثار أن إدريس عليه السلام هو أول من خط بالقلم (6) وأنه سمي إدريس لكثرة درسه كتاب الله تعالى ( 7) ..
وقد يكون ذلك من أسباب رفعة مكانته أيضا ، وقد جاء في القرآن الكريم : "
يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ... "( وجاء في
الأثر " لو وزن مداد العلماء ودم الشهداء لرجح مداد العلماء على دم
الشهداء .( 9) .. وفي
بعض الأخبار أنه ( إدريس عليه السلام ) كان يجتهد في العبادة والطاعة حتى
كان يرفع عنه كل يوم مثل جميع عمل بني آدم - لعله من أهل زمانه – وأنه طمع
في أن يزداد عملا ، فأتاه خليل له من الملائكة فقال له : إن الله أوحي لي
كذا وكذا ( يقصد عبارة : إني أرفع لك كل يوم مثل جميع عمل بني آدم ) فكلم
ملك الموت حتى أزداد عملا ، فحمله هذا الملك بين جنياحيه ، ثم صعد به إلى
السماء ، فلما كان في السماء الرابعة تلقاه ملك الموت منحدرا ، فكلم ملك
الموت في الذي كلمه فيه إدريس فقال : وأين إدريس ؟ قال هو ذا على ظهري فقال
ملك الموت : يا للعجب بعثت وقيل لي : اقبض روح إدريس في السماء الرابعة ،
فجعلت أقول : كيف أقبض روحه في السماء الرابعة وهو في الأرض ؟ ( 10) فقبض
روحه هناك ..
وقد حاول بعض المفسرين أن يستأنس لتلك الرواية بما جاء في صحيح البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم مر به في السماء الرابعة
، ولكن لا رابط بين الخبر وما جاء في البخاري ومسلم ، لأن الحديث الصحيح
يذكر أنه مر في السموات العلى بأنبياء غير إدريس عليه السلام ، مثل إبراهيم
وهارون وموسى عيسى ، وهؤلاء جميعا قبضت أرواحهم على الأرض ..
كما
أن المقصود من قول الله عز وجل : " ورفعناه مكانا عليا" ليس الرفع المادي
وإنما الرفع المعنوي ، رفع المكانة عنده سبحانه وتعالى وليس رفع الجسد على
غرار ما حدث مع النبي صلى الله عليه وسلم الذي رفع الله ذكره في العالمين
وقال له :" ورفعنا لك ذكرك ".
وقد
أورد المفسرون كثيرا من الروايات التي تفسر هذا العلو بقولهم : إن ملكا
رفعه إلى السماء بناء على طلبه ، ووضعه عند مطلع الشمس، أو أنه طلب الصعود
إلى السماء فصعد به ملك ، ولما حضر أجله قال لملك الموت لما جاءه : إن لي
إليك حاجة أخرى
، قال: وما هي ؟ قال : أن ترفعني إلى السماء فأنظر إلى الجنة والنار، فأذن
الله تعالى له في رفعه إلى السموات، فرأى النار فصعق، فلما أفاق قال أرني
الجنة، فأدخله الجنة، ثم قال له ملك الموت: أخرج لتعود إلى مقرك ، فتعلق
بشجرة وقال: لا أخرج منها.
فبعث
الله تعالى بينهما ملكا حكما، فقال مالك لا تخرج ؟ قال: لان الله تعالى
قال: " كل نفس ذائقة الموت " وأنا ذقته، وقال: " وإن منكم إلا واردها " وقد
وردتها، وقال: " وما هم منها بمخرجين " فكيف أخرج ؟ قال الله تبارك وتعالى
لملك الموت: " بإذني دخل الجنة وبأمري يخرج " فهو حي هنالك (11).
ومثل تلك الأخبار منسوبة إلى أناس من الصحابة والتابعين مثل : عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وكعب الأحبار ووهب ببن منبه ،
ولكن لا ندري من أين وصلهم هذا الكلام الذي لا أصل له في الكتاب أو السنة ،
ولذا ينبغي ألا نعول عليه، ويكفينا ما صح لنتأسى ونعمل به ، وأن يحرص كل
منا على أن يكون صديقا مثل إدريس عليه السلام .
وإلى اللقاء في الحلقة القادمة إن شاء الله .
ـــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
*مدير موقع التاريخ الالكتروني
1 ـ سورة "مريم " : 56 ، 57
2 ـ صحيح البخاري : 20 / 247
3 ـ صحيح مسلم : 17 / 35.
4 ـ السيوطي : جامع الأحاديث41 / 319
5 ـ صحيح البخاري : 12 / 181
6 ـ صحيح ابن حبان :2 / 76..
7ـ تفسير القرطبي 11 / 108
8ـ سورة " المجادلة" : 11
9 ـ الجامع الكبير للسيوطي : 1 / 17062
10 ـ البداية والنهاية 1 / 112
11 ـ تفسير القرطبي :11 /