بقلم الدكتور/ زغلول راغب النجار
(وَلَقَدْ
آتَيْنَا لُقْمَانَ الحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ
فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ
حَمِيدٌ*) (لقمان: 12 )
هذه
الآية القرآنية الكريمة جاءت في مطلع الثلث الثاني من سورة "لقمان", وهي
سورة مكية, وآياتها أربع وثلاثون (34) بعد البسملة, وقد سميت بهذا الاسم
لورود الإشارة فيها مرتين إلى العبد الصالح "لقمان الحكيم" وهي شخصية لا
يعرف المؤرخون شيئا عنها, ومن هنا كان في ذكر القرآن له وجها من أوجه
الإعجاز الإنبائي والتاريخي في ذكر كتاب الله ، وغالبية الذين كتبوا عن
"لقمان الحكيم" من علماء المسلمين يجمعون على أنه لم يكن نبيا, وقليلون هم
الذين يرجحون نبوته لتسمية إحدى سور القرآن باسمه, ولمدح الله – تعالى- له
في آيتين متتاليتين من هذا الكتاب العزيز ، وعلى الرغم من ذلك فإن الجميع
متفقون على أنه كان من أحناف زمانه, انطلاقا من دعوته إلى التوحيد الخالص
لله- تعالى-, وإلى الالتزام بمكارم الأخلاق؛ واستنكاره لانحرافات الشرك
بالله – تعالى – أو الكفر به , وللتكبر على الخلق والاستعلاء عليهم ،
والجميع يقرون بشهادة القرآن الكريم له بالحكمة وحسن الخطاب.
ويدور
المحور الرئيسي لسورة "لقمان" حول العقيدة الإسلامية- شأنها في ذلك شأن كل
السور المكية- كما تشير هذه السورة الكريمة إلى ضرورة الالتزام بالضوابط
الأخلاقية والسلوكية المميزة للعبد المؤمن, وتؤكد على جزاء كل من المحسنين
والمسيئين في الدنيا والآخرة, وتستشهد في هذا السياق بعدد من الآيات
الكونية الدالة على طلاقة القدرة الإلهية المبدعة في الخلق, والشاهدة
للخالق- سبحانه وتعالى- بالإلوهية, والربوبية, والخالقية, والوحدانية
المطلقة فوق جميع خلقه, وبالقدرة على البعث, والحشر, والحساب والجزاء,
وختمت هذه السورة الكريمة بالإشارة إلى عدد من أمور الغيب التي استأثر بها
علم الله- تعالى-.
هذا
وقد سبق لنا استعراض سورة "لقمان" وما جاء فيها من ركائز العقيدة,
والإشارات الكونية, ونركز هنا على الإعجاز الإنبائي والتاريخي والتربوي في
ذكر القرآن الكريم للعبد الصالح "لقمان", ولما آتاه الله- تعالى- من الحكمة
التي انعكست على نصائحه لابنه, وهي نصائح تشكل منهجا تربويا كاملا في
تنشئة الأبناء.
من أوجه الإعجاز في ذكر القرآن الكريم للعبد الصالح المعروف باسم "لقمان الحكيم"
أولا: الإعجاز الإنبائي والتاريخي في ذكر اسم "لقمان" :
تعتبر
إشارة القرآن الكريم إلى العبد الصالح "لقمان" وجها من أوجه الإعجاز
الإنبائي والتاريخي في كتاب الله الكريم, لأنه لم يرد لهذا العبد الصالح
ذكر في أي من العهدين القديم أو الجديد, وذكر القرآن الكريم له يملأ ثغرة
تاريخية في زمن عبد الله ونبيه داود- عليه السلام- حيث قيل عن "لقمان" أنه
كان قاضيا في زمن ذلك النبي, وأن اسمه كان "لقمان بن عنقاء بن سدون" كما
ذكر ذلك ابن كثير (في البداية والنهاية, ج 2 , ص 29) . وقال عنه السهلي (
في كتابه المعنون: "التعريف والإعلام" ص 100, 101 ) أنه كان نوبيا سكن
مدينة أيلة على خليج العقبة (والتي عرفت بعد ذلك باسم "أم الرشراش" تحت
الحكم المصري ثم احتلها الصهاينة في حرب 1956م, وغيروا اسمها إلى إيلات )
ونقل عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أن "لقمان" كان عبدا حبشيا .
ويصف
هؤلاء الرواة أن "لقمان الحكيم" كان رجلا ذا عبادة خاشعة, وعبارة ساطعة,
وإيمان عميق, وكان كثير التفكر, شديد الورع, حسن اليقين بالله, وأنه كان عف
المطعم, عف الجوارح, وعف اللسان, فأحبه ربه, ومن عليه بالحكمة.
وتعرف
الحكمة بشأنها الفقه في الدين, والإصابة في الحكم, وموافقة الحق, والنجاح
في وضع الأمور في نصابها بلا مبالغة ولا تقصير، وقد تميز لقمان بالعدل,
والعلم, والحلم, وبمداومدة الشكر لله, ولذلك تمتع بقدر عال من الاحترام في
مجتمعه, وبمنزلة رفيعة بين أقرانه حتى اشتهر باسم "لقمان الحكيم", وامتدحه
القرآن الكريم بقول الحق- تبارك وتعالى- عنه : (وَلَقَدْ آتَيْنَا
لُقْمَانَ الحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا
يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)
(لقمان:12). كذلك امتدح القرآن الكريم كل من أوتي الحكمة, وذلك بقول ربنا-
سبحانه وتعالى- ( يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ
فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيرا ً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا
الأَلْبَابِ *) (البقرة:269).
ثانيا: من أوجه الإعجاز التربوي في عرض القرآن الكريم لقصة "لقمان الحكيم":
(1) التأكيد على وحدانية الخالق العظيم, والإقرار بالعبودية له وحده وهي
أساس العقيدة الحقة التي تشكل قاعدة المنهج الرباني في بناء الإنسان, وفي
تربيته التربية الإسلامية الصحيحة التي توفر له الطمأنينة والراحة النفسية
والعقلية وفي ذلك يقول ربنا- تبارك وتعالى-: ( وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ
لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ
الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ*) (لقمان:13). وذلك لأن الشرك بالله هو أولى
بوابات الشيطان إلى الإنسان, وأحد مداخله الرئيسية التي أضل بها البشرية من
لدن قوم نوح إلى يومنا الراهن, وسيظل كذلك حتى قيام الساعة.
(2)
وجوب بر الوالدين حتى لو كانا مشركين بالله – على خطورة الشرك, وانحراف
المشركين عن جادة الصواب- : تؤكد الآيات في سورة لقمان على فضل الوالدين,
وعلى تعظيم حقوقهما على أبنائهما, وتأكيد واجب الشكر لهما, والعرفان
بأفضالهما, وذلك من أجل استقرار كل من الفرد والمجتمع في البيئة الإسلامية
وانتظام الحياة فيها . ولذلك جعلت الآيات في سورة "لقمان" الشكر لهما
مقرونا بالشكر لله- تعالى- صاحب الفضل والمنة على جميع خلقه وفي ذلك يقول
ربنا- تبارك وتعالى-: ( وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ
أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ
لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المَصِيرُ* وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن
تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا
وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً و َاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ
أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ
تَعْمَلُونَ* ) (لقمان: 14-15).
(3)
وجوب مراقبة الله في السر والعلن : وذلك لأن علم الله- تعالى- محيط بكل
شئ, وأن الله- سبحانه وتعالى- لا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء .
وإذا أيقن العبد منا ذلك كان في استشعاره لمراقبة الله خير ضابط لسلوكه.
وبذلك يوصي "لقمان الحكيم" ابنه قائلا : ( يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ
مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي
السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ
لَطِيفٌ خَبِيرٌ *). (لقمان:16).
(4)
وجوب مخاطبة الأبناء بالخطاب الذي يستميل قلوبهم فالخطاب إلى الابن بصيغة
(يا بني) يحمل من معاني الفهم العميق لطبيعة النفس الإنسانية, ومن مشاعر
الحب , والحنان, والشفقة والعطف, ما يمكن أن يستميل قلب الولد , ويحبب إليه
ما يطلبه منه من مختلف الأوامر والنواهي , ومن جميع الوصايا والآداب .
ويعبر ذلك عن مدى الحكمة التي من بها ربنا- تبارك وتعالى- على عبده "لقمان"
, ومدى عمق فهمه للطبيعة البشرية , خاصة في مراحلها الأولى .
(5)
وجوب فهم المتربي لحقيقة رسالته في هذه الحياة الدنيا : عبدا لله- تعالى-
مطالبا بعبادة ربه بما أمر , ومستخلفا ناجحا في الأرض, مطالبا بعمارتها
وبإقامة شرع الله وعدله فيها : ولذلك فإن لقمان – عليه السلام – بعد أن علم
ابنه العقيدة الصحيحة القائمة على الإيمان الحق بالله الخالق, وبالتوحيد
الكامل لجلاله , وبتنزيهه – جل شأنه – عن جميع صفات خلقه, وعن كل وصف لا
يليق بجلاله, واليقين بأن علم الله محيط بكل شيء, وأن الله – تعالى – لا
يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء , طالبه بإقامة الصلاة, والأمر
بالمعروف, والنهي عن المنكر, وبالصبر على ما يمكن أن يناله في هذا السبيل
لأن من حقيقة الإيمان الصبر على المكاره, ومؤكدا له أن ذلك من عزم الأمور,
أي من الأمور الواجبة, المؤكدة على حقيقة الإيمان, وفي ذلك يقول القرآن
الكريم : ( يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ
عَنِ المُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ
الأُمُورِ*) ( لقمان : 17).
فصلاح
المجتمعات الإنسانية كلها قائم على التواصي بالحق , والتواصي بالصبر , ومن
معاني ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , والصبر على ذلك كله من أجل
إحقاق الحق وإزهاق الباطل , ولذلك أوصانا المصطفى – صلى الله عليه وسلم –
بقوله الشريف "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو
ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه , ثم تدعونه فلا يستجاب لكم "
(الترمذي والبيهقي ) وفي رواية أخرى : " لتأمرن بالمعروف , ولتنهن عن
المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم , ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم" (
الهيثمي ).
المصدر : موقع الدكتور زغلول النجار