الأسئلة الثلاثة التي لم يجب عنها من كتبوا عن المسيري .
كالبحر
يمطره السحاب وما لَه... فضل عليه..لأنه من مائه.. اشتعل فضاء الشبكة
العنكبوتية - الإنترنت - بهذه الجملة ، كما أُرسلت عبر آلاف الرسائل على
الهاتف المحمول : كانت الجملة القصيرة محملة بالفجيعة والألم والإحساس
باليتم: المسيري مات..
كانت
الكلمتان تحملان نفس النبرة الفاجعة التي تحملها نبرات أم تنعي إلى
أبنائها موت أبيهم.. أو وطن ينعي ابنه الأكبر والمسئول عن ريادته وقيادته
والوصول به إلى بر الأمان.. المسيري مات.. عليه من الله الرحمة والرضوان
ولنا فيه الصبر والسلوان..
لكأنما خلقه الله في هذه الدنيا كي يجعله شاهدا على العالم في إيصال رسالة الله إليه وإقامة الحجة عليه..
والحقيقة أن أي كلمات تقال في رثاء المسيري لا توفيه حقه، وليس يعزي
المسلمين فيه إلا حسن ظنهم بمآله عند ربه، وهم لا يزكونه على الله بل
يحتسبونه ويحسبونه ممن عناهم الحديث النبوي الشريف: مثل العلماء في الأرض
كمثل النجوم في السماء يُهتدى بها في ظلمات البر والبحر، فإذا انطمست
النجوم أوشك أن تضل الهداة" وهم يحتسبونه في مقعد صدق عند مليك مقتدر
ويرجون أن يكون – إن شاء الله- في الفراديس العلا.
رثاؤنا
كمسلمين للمسيري لن يوفيه حقه.. كما أن الكتابة عنه في مقال أو حتى عدة
مقالات تبدو مستحيلة.. فمثله يحتاج دورية أو دوريات باسمه تنكب على دراسته،
نعم، فهذا الفيلسوف الموسوعي الفذ سيتعب من يأتي بعده لدراسته، ولعل إحدى
هذه الدراسات الهامة هي تلك التي أصدرتها مكتبة دار الشروق في جزأين بعنوان
:"في عالم عبد الوهاب المسيري- حوار نقدي حضاري- تقديم محمد حسنين هيكل
وتحرير الدكتور أحمد عبد الحليم عطية.
وهذه
الدراسة حصيلة مؤتمر نظمته كلية الآداب بجامعة القاهرة عام 2000م عن مجمل
أعماله في أدب الطفل والنقد الأدبي والدراسات اليهودية بمناسبة صدور كتاب
(في عالم عبد الوهاب المسيري..
حوار نقدي حضاري) وتقع الدراسة في 1130 صفحة كبيرة القطع ضمن مجلدين يضمان
دراسات كتبها أكثر من 80 مؤرخا ومفكرا عربيا وأجنبيا من ماركسيين
وإسلاميين وليبراليين منهم محمد حسنين هيكل والمؤرخ الأمريكي كافين رايلي
رئيس جمعية دراسات تاريخ العالم بالولايات المتحدة مؤلف كتاب (الغرب
والعالم) الذي صدر في مجلدين عام 1985 وشارك المسيري في ترجمته.
في
هذه الدراسة يقول "كافين رايلي"- المؤرخ الأمريكي البارز ورئيس جمعية
دراسات تاريخ العالم بالولايات المتحدة- أنه يلهث دون عبد الوهاب المسيري
بمسافات طويلة، بل يقول بالنص:"أذكر أنني وأنا أقوم بالتدريس لطلبة
الدراسات العليا، كنت أنظر لنفسي باعتباري أذنا لصوته!".
ولعلنا
في ذات السياق نتذكر تلك الكلمة الموجزة التي كتبها عنه الدكتور حسن نافعة
من أن المسيري ليس فقط أفضل بكثير مما يظنه أعداؤه، بل هو أفضل بكثير مما
يظنه أصدقاؤه أيضا.
أظن
أن ما منح المسيري هذه المكانة السامقة هو أنه لم يمنح فكرا فقط بل منح
منهجا يصنع الفكر ويجدده باستمرار.. منح المنهج والقدرة على الاستنباط
والابتكار والتجديد في التفكير..
وغني عن البيان أن نشير هنا إلى أنه ليس معصوما من الخطأ لكننا نظن أن
أخطاءه هي أخطاء الاجتهاد وله عليها ثواب.. وما أقل ما أخطأ!
سوف
أحاول قدر ما أستطيع أن أختصر المعلومات المعروفة عن المسيري فهي منشورة
ومكررة في آلاف الأماكن والصحف والمجلات والمواقع، لذلك سوف نكتفي بالحد
الأدنى للتعريف والذي ورد جزء منه بموقعه وجزء آخر على موقع قناة الجزيرة،
ومواقع أخرى، فهو أهم مفكر عربي إسلامي في العصر الحديث على الأقل وأستاذ
غير متفرغ بكلية البنات جامعة عين شمس. وُلد في دمنهور 1938 والتحق عام
1955 بقسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب جامعة الإسكندرية وعُين معيدًا
فيها عند تخرجه، وسافر إلى الولايات المتحدة عام 1963 حيث حصل على درجة
الماجستير عام 1964 (من جامعة كولومبيا) ثم على درجة الدكتوراه عام 1969 من
جامعة رَتْجَرز Rutgers.
وعند عودته إلى مصر قام بالتدريس في جامعة عين شمس وفي عدة جامعات عربية
من أهمها جامعة الملك سعود و في أكاديمية ناصر العسكرية، وجامعة ماليزيا
الإسلامية، كما كان عضوا بمجلس الخبراء بمركز الدراسات السياسية
والإستراتيجية بالأهرام، ومستشارًا ثقافيًا للوفد الدائم لجامعة الدول
العربية لدى هيئة الأمم المتحدة بنيويورك وعضو مجلس الأمناء لجامعة العلوم
الإسلامية والاجتماعية بليسبرج، بولاية فرجينيا بالولايات المتحدة
الأمريكية، ومستشار التحرير في عدد من الحوليات التي تصدر في ماليزيا
وإيران والولايات المتحدة وانجلترا وفرنسا (مرحلة الثمر). ومن أهم أعمال
الدكتور المسيري موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: نموذج تفسيري جديد
(ثمانية مجلدات) وكتاب رحلتي الفكرية: سيرة غير ذاتية غير موضوعية- في
البذور والجذور والثمر. وللدكتور المسيري مؤلفات أخرى في موضوعات شتى من
أهمها: العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة (جزأين)، إشكالية التحيز:
رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد (سبعة أجزاء).
كما
أن له مؤلفات أخرى في الحضارة الغربية والحضارة الأمريكية مثل: الفردوس
الأرضي، و الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، والحداثة وما بعد الحداثة،
و دراسات معرفية في الحداثة الغربية. والدكتور المسيري له أيضاً دراسات
لغوية وأدبية من أهمها: اللغة والمجاز: بين التوحيد ووحدة الوجود، ودراسات
في الشعر، وفي الأدب والفكر، كما صدر له ديوان شعر بعنوان أغاني الخبرة
والحيرة والبراءة: سيرة شعرية ، وقد نشر الدكتور المسيري عدة قصص وديوان
شعر للأطفال وهو بهذا موسوعة علمية وأدبية فلسفية.
لو
أننا قلنا إن عبد الوهاب المسيري أعظم فلاسفة العرب خلال ألف عام ما
جاوزنا الحقيقة.. عبد الوهاب المسيري هذا شرفه الله وكرمه بأن حرم
المنافقين من السير في جنازته، ليذكرنا بسيدنا عمر بن الخطاب الذي حمد الله
لأن قاتله الذي سيواجهه يوم القيامة لم يركع لله ركعة.
عبد الوهاب المسيري هذا رفض وطنه أن يعالجه بينما يعالج المنافقين والقوادين والراقصات .
عبد
الوهاب المسيري هذا لا تكفيه مقالة عابرة.. ولو أن هذا الوطن أنصف لجعل كل
مؤلفات المسيري مقررات دراسية تدرس في مختلف مناهج التعليم عامة ، وفي
كليات العلوم الإنسانية خاصة بدلا من تلك المقررات الشاذة التي تقتلع الدين
من جذوره وتنشر الكفر والشذوذ، بل وتترك لنا عددا كبيرا من خريجي هذه
الكليات وأساتذتها حطام بشر ومرضى نفسيين تعرضوا لغزو فكري عات دون أن
يدربوا على مقاومته فانهاروا، وليس لدينا مانع من بقاء هذه المناهج
الكافرة، ولكن بشرط ألا يقتصر التدريس عليها كما يصر العلمانيون الأشرار
أعداء الله والأمة عملاء الغرب والشيطان، بل يجب أن تبقى لتُدحض وتواجه
بالرأي الآخر الكفيل بالقضاء عليها، الرأي الصحيح المقدر لمنجزات الغرب
والمتعالي في نفس الوقت على جرائمه الفكرية، والمزدري لها بل والمسفه لقيمه
الوحشية والمهترئة ، والمحتقر لقدرته على الكذب والاختلاق والتزوير
والقتل، ومثل هذه الآراء يقول بها الكثيرون من المفكرين المسلمين بل
والغربيين الذين يتسمون بالنزاهة وعلى رأس هؤلاء وأولئك الدكتور عبد الوهاب
المسيري.
الكتابة عن المسيري تبدو مستحيلة استحالة أن تسير في شارع واحد من شوارع القاهرة ، ثم تحاول رسم كل تفاصيل كل شوارعها
، أو أن تحاول شرح موسوعة ضخمة بعد أن تقرأ صفحة واحدة فيها، بل وحتى لو
قرأت معظم أعماله، فإن أي كتاب للمسيري، وربما كل مقالة تحتاج إلى ندوات
وحلقات لتفسيرها وبسط أطروحاتها وطريقته السلسة السهلة المعجزة في توليد
المتناقضات أو توفيقها، وفي طرح النماذج التفسيرية، وفي إعادة قراءة
المقروء بفهم يسفر عن عكس المعاني، أو عن إضافات كامنة لكنها لم تخطر ببال،
وكذلك جهده العبقري في الكشف عن عوار الآخرين وعجزهم.
وفي
هذا الصدد فإننا نرجو بقايا الجزر المعزولة التي لم يصبها التعفن والفساد
بعد، في وزارة الثقافة أو مكتبة الأسرة أن تعيد طبع مؤلفات المسيري بمئات
الآلاف من النسخ، بدلا من أكداس الكتب المخزنة في مخازنهم والتي لا يقرأها
أحد، حيث تحول النشر عندهم إلى رشوة كعربون ومقدم ثمن لخيانة أو مكافأة
عليها..
ترى.. هل شرفت مكتبة الأسرة بأن تنشر أي عمل من أعماله؟ وهل كررت وزارة الثقافة فعلتها الغريبة بنشر سيرته الذاتية؟
لمن ينشرون إذن إذا لم ينشروا لأستاذ الأساتذة. نعم..أستاذ الأساتذة كما يصفه الدكتور إبراهيم البيومي غانم قائلا:
" وكنت في كل مرة أكتشف بعداً جديداً من "الثورة" التي يحدثها في عالم
الأستاذية، وفيما يجب أن تكون عليه علاقة العالم (مثله) بالمتعلم من
أمثالنا ، كان ثورة في الأستاذية نادراً ما عرفنا مثيلاً له، وهو أيضاً ـ
رحمه الله ـ ثروة من العلم الرصين، والمعرفة الموسوعية، والثقافة الثرية،
والفكر المتجدد، والإبداع الخلاق في ميادين شتى. من حيث الحجم تشهد أعماله
بأهميته "كثروة" من المؤلفات والبحوث والدراسات والمقالات الكثيرة".
لن نستطيع رثاء المسيري إذن، ولن نستطيع استعراض أعماله، لكننا سنحاول الإجابة على أسئلة ثلاثة لم يتصد للكتابة عنها من كتبوا عنه..
السؤال الأول: هل جاء المسيري بفكر جديد لم تعرفه الأمة أم كان امتدادا وتجديدا لفكرها؟.
السؤال الثاني: ما هو سر موقف العلمانيين منه، وهو موقف شديد التناقض، إذ يبالغ في الإشادة بشخصه وفي نفس الوقت يتجاهلون فكره؟.
السؤال الثالث: لماذا نجح المسيري فيما لم ينجح فيه سواه.. ولماذا اشترك في مقاطعته العلمانيون والغرب وإسرائيل؟.
في
إجابتنا عن السؤال الأول نقول : إن المسيري كان امتدادا رائعا وناصعا
لأجيال وأجيال قبله، لكنه استطاع أن يفلت من التعتيم والتشويه الذي فرض على
من كانوا قبله.
إن
ما يقوله المسيري هو نفس ما كان يقوله سيد قطب ومحمود شاكر ومحمد قطب
ومصطفى صادق الرافعي ومالك بن نبي ومحمد الغزالي وعلى عزت بيجوفيتش وناصر
الدين الألباني وجاد الحق علي جاد الحق ومصطفي الشكعة وعادل حسين وطارق
البشري ومحمد عمارة وأحمد شلبي ومصطفى السباعي، بل إنه بشكل من الأشكال
يعتبر امتدادا وتطويرا لمحمد أسد وجيفري لانج ومريم جميلة وكيث مور ،
وهو من أكبر علماء التشريح والأجنة في العالم وتيجاتات تيجاسون رئيس قسم
علم التشريح في جامعة شيانك مي ، تايلند ومراد هوفمان ورجاء جارودي و عبد
الكريم جرمانيوس...العالم المجري الذي وصفه العقاد بأنه:"عشرة علماء في
واحد" وعبد الواحد يحيي (رينيه جينو) والفرنسي روبرت بيرجوزيف أستاذ
الفلسفة الجامعي وزيجريد هونكه وجوته وآنا ماري شميل وهنري دي كاستري
واللورد هدلي وآتين دينيه ومراد هوفمان والبروفسور (مونتيه) وموريس بوكاي
وديزيريه بلانشيه. بل إننا نتجاوز في القول لنشعر أثناء حديثه عن مغريات
الدنيا وذئابها الثلاثة: الثروة والشهرة والتفاصيل، أننا نقرأ في كتاب
إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي.
إننا
لا نخبط خبط عشواء، فهاهو المسيري بنفسه يقول في إحدى ندواته : إنه آسف
لعدم اكتشافه وقراءته لكتاب الإسلام بين الشرق والغرب لعلى عزت بيجوفيتش،
لأنه لو قرأه في الوقت المناسب لوفر عليه ثمانية عشرة عاما وعرة في رحلته
إلى الإسلام، بل ويتجاوز ذلك، ليطلب من مترجم ذلك الكتاب، الكاتب والباحث
والعالم الكبير الأستاذ محمد يوسف عدس، يطلب منه ألا يختفي هذا الكتاب من
المكتبات أبدا، وأن يظل مطروحا للقراء على الدوام، بل ويشرع في كتابة مقدمة
لطبعة جديدة منه، لا ندري إن كان أتمها، مشيدا في الوقت نفسه بالجهد
الهائل الذي بذله الأستاذ عدس ليس في ترجمة الكتاب ترجمة رصينة فقط بل وفي
تحقيقه أيضا، حيث قال المسيري أنها أروع ترجمة يقرأها خلال عشرة أعوام. (
لشد ما أتمنى أن تقوم الصحف الحرة نسبيا بنشر كتب المسيري ومحمد يوسف عدس
على حلقات أو في طبعات خاصة بدلا من ذلك الصغار الذي يطبع كتب التجديف في
طبعات خاصة تحت عنوان : نحن نتحدى!.. ولا نعرف من يتحدون: الناس أم الله..
كبرت كلمة تخرج من أفواههم).
نعم
كان المسيري فرعا هائلا لدوحة هائلة عميقة الجذور متنوعة المنابع لكننا
سوف نتجاوز هذا المدى دون وجل لنقول أن المسيري -الذي نضى عن نفسه في آخر
حياته كل أوصافه السابقة والمتعددة ولم يعد يرحب إلا بوصف واحد هو أنه
المفكر الإسلامي.
نعم
كان المسيري هو مجرى النهر الحقيقي الذي يحاولون تجفيفه وهو الامتداد
الطبيعي لفكر السلف الصالح، بل هو قراءة عميقة للكتاب والسنة. قراءة أعمل
فيها عقله الفذ ليكتشف أن المكون الديني ليس مجرد قشرة وإنما هو جزء من
الكيان والهوية. إنه يقول أن الإيمان داخله لم يولد إلا من خلال رحلة عقلية
طويلة ولذلك فإنه إيمان تأملي عقلي لم تدخل عليه عناصر روحية فهو إيمان
يستند إلي إحساس بعجز المقولات المادية عن تفسير ظاهرة الإنسان والي ضرورة
اللجوء إلي مقولات فلسفية أكثر تركيبية. ويوضح أنه اكتشف الدين كمقولة
تحليلية وليس مجرد جزء غير حقيقي من بناء فوقي ليس له أهمية في حد ذاته..
المكون الديني ليس مجرد قشرة وإنما هو جزء من الكيان والهوية.
تعس
إذن أولئك المرجفون الذين يزعمون أن الدين مجرد علاقة بين الإنسان وربه
وهم لا يقصدون إلا هدم الدين كله، فالدين هوية محركة ضابطة حاكمة للمجتمعات
والدول والأمم والأفراد جميعا.
نعم..
كان المسيري يشكل طوفانا تدفق على غير توقع في مجرى نهر كانوا قد ظنوا
أنهم أوشكوا على تجفيفه، لكن ما أن جاءت التسعينات من القرن الماضي حتى كان
طوفان عبد الوهاب المسيري يتدفق في النهر من جديد -وكما يقول رضوان
السيد-الحياة 8-7- كان نجم عبد الوهاب المسيري قد كسف كل الشموس الأخرى،
وفي ثلاثة مجالات: شرور الثقافة الغربية والتيارات التغريبية فيها،
والصهيونية باعتبارها ظاهرة قوية جداً في الحضارة الغربية، والإسلام
السياسي باعتباره ظاهرة احتجاجية وأصولية مهمة لبناء عالم جديد غير العالم
المشوَّه الذي بناه الغرب في ديارنا. كان طوفانا تدفق في نهر كاد مجراه أن
يجف وكانت منابعه هي ذات منابع النهر الأولى.
أما
الإجابة عن السؤال الثاني: وهو عن سر موقف العلمانيين منه، حيث يبالغون في
الإشادة بشخصه وفي نفس الوقت يتجاهلون فكره فإنها تقتضي منا أن نسترجع في
خشوع بدائع صنع الله جلت قدرته،
عندما جعل حماية موسى عليه السلام تتم على يد الفرعون الطاغوت وحاشيته
الكافرة حتى يشتد عوده فينبري لينشر الإسلام رسالة الله ودينه الحق .. بل
وليقضي على فرعون ومن أصر على الكفر من حاشيته.. كانت الحاشية العلمانية هي
التي سهرت على رعاية المسيري حتى طبقت شهرته في الآفاق..إنهم يفعلون مثل
ذلك بصعاليكهم فيجعلون من الجهلاء علماء ومن السفلة نبلاء ومن الأقزام
عمالقة.. فكيف يكون الأمر إذا حدث مع عالم نبيل عملاق عبقري كالمسيري.. لكن
هذا العبقري خدعهم وآمن!. وكان موقف النخبة المثقفة الظاهرة – ومعظمها خان
أمانته- من المسيري كموقف المنافقين في كل زمان ومكان، إنهم يخشونه ولكنهم
لا يستطيعون مواجهته، لذلك لا مناص من التزلف إليه ومدحه، خشية من أن
يواجههم ويكشفهم ويعريهم بمنطق لا يستطيعون مواجهته وبثقافة لا يجرؤون –
رغم خبرتهم الهائلة وتراثهم التليد في الكذب- على المزايدة عليها.
كان يملك سيف الحق البتار وبرهان المنطق الساطع ويلم بتفاصيل الفلسفة والتاريخ والأدب وعلوم الاجتماع.. وكانوا هم أدعياء في كل هذا..
ولمزيد
من تفاصيل الإجابة على هذا السؤال تقتضي أن نستعيد كلمة خائبة لجمال عبد
الناصر، رائد تزوير الانتخابات وقائد الهزائم وقاهر العزائم ومبتدع المحاكم
العسكرية والمذابح والتعذيب،
كلمة قالها بعد هزيمة 67 المروعة حين قال في تبرير كاذب لها: "انتظرناهم
من الشرق فجاءونا من الغرب"لقد انتظر العلمانيون أن يأتيهم فكر عبد الوهاب
المسيري من الشرق فجاءهم من الغرب ليوقع بهم هزيمة ساحقة كهزيمتنا سنة 67
ولكن في الاتجاه المضاد.
كان
العلمانيون في بلادنا –وجلهم- مجرد ببغاوات تردد مقولات الخارج، حيوانات
باعت أنفسها وسكنت أقفاصا من ذهب وراحت تردد ما يلقن لها وتقبض الثمن، وكان
هؤلاء وأولئك من الذين تشمئز قلوبهم لذكر الله، لكن المسيري الذي شرح الله
صدره للإيمان لم يقل لهم قال الله وقال الرسول: بل اندفع كطوفان هائل
يكتسح كل من يقف في طريقه ، فإذا بالكيانات الضخمة تنجرف أمامه كعلب ثقاب
فارغة.
واجهوه
بثقافة مزيفة كحيات سحرة فرعون فواجههم بثقافة حقيقية فإذا بها تلتهم ما
يأفكون، ولقد آمن سحرة فرعون القديم لكن السحرة الجدد لم يؤمنوا ولم
يتوبوا، ولم يجرءوا على المواجهة ، لم يستند المسيري في أفكاره إلى مقولات
إسلامية وإنما أدان الفكر الغربي من منظور غربي وعالمي .
لقد
أدرك ما أدركه إدوارد سعيد الذي فضح في كتابه الهام "الاستشراق" الصور
التي صنعتها الثقافة الغربية للشرق والإسلام تبريراً لاستعماره.
(إدوارد سعيد رغم عظمته لا يكاد يقارن بمحمود شاكر ومحمد محمد حسين ومصطفى
صادق الرافعي.. لكن ميزته الكبرى أنه جاء من الغرب) لقد كشف إدوارد سعيد
كم أن الغرب وحشي وكاذب ومخادع، لكنه اقتصر على ذلك، لم يضع حلا، وكان
كتابه هاما جدا ومنعطفا خطيرا للفكر في العالم تتقاصر دونه كتابات كثير من
المفكرين المسلمين ويجلل الخزي رؤوس أتباع الغرب، ولكن عمل إدوارد سعيد
الهائل كان مجرد شجرة باسقة سامقة حتى تقدم العملاق العظيم عيد الوهاب
المسيري فإذا به غابة من أشجار باسقة سامقة ليس لها مثيل ولا نظير، تقدم
ليؤصل ويطور ويعيد بناء ما شيده إدوارد سعيد في بنية عملاقة وليصرخ بعد
تشييدها في البرية: الإسلام هو الحل.
الممارسات
المجرمة التي يتبعها العلمانيون في بلادنا، وهي ذات الطريقة التي ينظر بها
الغرب إلى شعوبنا، من اتهام للمختلفين معهم وخاصة الإسلاميين بالجهل
والتخلف والهمجية والغباء، هذه
الطريقة لم تكن تصلح مع المسيري الذي درس الفكر والأدب الغربي وحاز فيه
على أرفع الدرجات العلمية واستوعب الفلسفة الغربية والتاريخ فلم يبد
منبهراً أو حتى معجباً بالفكر الغربي، بجناحيه الرأسمالي والماركسي، بل إنه
وجه ضربات نقدية موجعة لهذا الفكر، فاضحاً جذوره النفعية والاستغلالية
وسمته المادي المعادي لكل ما هو إنساني، كان قد أدرك أن الاستعمار والنهب
مكون أصيل في الرؤية الغربية، فمنذ منتصف القرن التاسع عشر بلورت المنظومة
الحضارية الغربية رؤيتها للعالم وللآخر وللذات، وتنطلق هذه الرؤية من أن
العالم في جوهره مادة، وأن ما يحكمه هو قانون الحركة المادية، وأن ما هو
غير مادي ليس بجوهري، ولا يمكن أن يُؤخذ في الاعتبار حينما ندير شؤون
دنيانا ومجتمعنا، بمعنى أنه لا يوجد معايير إنسانية أو أخلاقية أو دينية
تحكم حركة الإنسان والدول.
وفي
هذا الإطار تحركت جيوش أوروبا ثم الولايات المتحدة، واقتسمت العالم فيما
بينها، وحوّلته إلى مناطق نفوذ، وفرضت رؤيتها على العالم بأسره،
وهذه الرؤية يمكن أن نلخص سماتها الأساسية في أن الصراع هو أساس العلاقة
بين الدول، وبين الدولة والفرد، وبين الإنسان وأخيه الإنسان، أي أن ما ساد
هو رؤية ميكافيللي وهوبز للإنسان (الإنسان ذئب لأخيه الإنسان)، وهي ذاتها
الرؤية التي طورها داروين عالم الأحياء المعروف واستفاد منها كارل ماركس،
وتسيطر هذه الرؤية حالياً على العلاقات الدولية والإنسانية، وعلى اقتصاديات
السوق، سواء على المستوى المحلي أو المستوى العالمي.
هذا
التصور الوحشي للعالم هو ما أثبته المسيري كوثيقة اتهام ضد العالم الغربي
حررها فلاسفة ومفكرون من الغرب ليمزق أستار الكذب التي تخفى حضارتهم خلفها
طويلا مدعما بالميديا الهائلة التي يسيطر عليها والتي تستخدم العلمانيين
والخونة وأكثر وسائل الخداع والكذب والتدليس مضاء.
يدرك
المسيري ما وقعنا فيه من مزالق وما استدرجنا إليه، فيلاحظ على سبيل المثال
أن الانتماء القومي في هذا الإطار يعطي صاحبه حقوقاً مطلقة،
فلو قرر أعضاء قومية ما أو عرق ما أن من حقهم ضم هذه الأراضي أو طرد هذا
الشعب أو حتى إبادته (كما جري في أمريكا الشمالية وفي ألمانيا النازية
وإسرائيل الصهيونية) فهو حق لا يمكن لأحد أن يعترض عليه، وهو حكم لا يمكن
استئنافه، وهذا الإطار الفكري والمرجعي أفرز فكراً عنصرياً كريهاً قسم
العالم إلى عالم غربي متقدم وعالم غير غربي متخلف.
يصرخ
ضمير المسيري وترتج جنبات نفسه إزاء عالم غربي يبدو أكثر شراسة ووحشية من
أشد حيوانات الغابة وحشية وشراسة. لقد أدرك أن النموذج المادي عاجز عن
تفسير سلوك الإنسان وعواطفه ودوافعه، إلى أن يعرج به فهمه للإنسان
"الرباني" إلى الإيمان بالله وبدلاً من الوصول إلى الإنسان من خلال الله،
وصل إلى الله من خلال الإنسان، لقد عرف نفسه فعرف ربه إنها "الإنسانية
الإسلامية" التي تنطلق من رفض الواحدية المادية والتي تصر على ثنائية
الإنسان والطبيعة المادة، وتصعد منها إلى ثنائية الخالق والمخلوق.
خاض
المسيري في بحور الفلسفة الغربية وظل ربع قرن يقاوم الإيمان رغم أنه لم
يقع أسير الإلحاد الكامل، ثم من الله عليه بالإيمان وبالتدريج تحول الإيمان
إلى رؤية شاملة للكون، وإطار للإجابة عن كل التساؤلات والمرجعيات بحيث يصبح العالم بلا معنى ولا مركز بدون الرؤية الإيمانية الإسلامية.
وبعد
تحوله الفكري أصبح يرفض كل ما هو غير إنساني، فيرفض عبادة الطبيعة أو
التكنولوجيا أو العقل أو العاطفة أو المثالية الخالصة أو الروحية الخالصة،
فهذه كلها مكونات متكاملة متناقضة؛ لأن الإنسان هذا الكائن الفريد يقع في
نقطة تلاقي بين كل هذه العناصر، وذلك في سياق فهمه لقوله تعالى (وَإِذْ
قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ
حَمَأٍ مَسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي
فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) [الحجر:28-29].
لقد
درس المسيري أعمق تفاصيل الفلسفة الغربية ليدرك أنها تهدف إلى تحويل
العالم كله إلى مجرد أدوات مادية بدون غاية أو مآل و يفقد الحياة معناها
ويحولها إلى تعبير دهري دنيوي.
إن الغرب يفقد الإنسانية معناها ليتحول الإنسان إلى شيء من الأشياء ليس
أفضل ولا أسوأ، إنه يقرر في حسم أن الإنسان المعجزة يجاوز كل الحتميات
الطبيعية التي يدعيها الماديون، كما يكتشف أن وجود الله سبحانه وتعالى هو
الضمان الوحيد لوجود الإنسان, وبغياب الله يتحول العالم إلى مادة طبيعية
صماء, خاضعة لقوانين الحركة والضرورة التي يمكن حصرها ودراستها والتحكم
فيها.
إن
عملاق العلمانية الهائل المبهر قد تحول إلى مسخ شائه لا حول له ولا قوة
بعد أن هاجمه المسيري ونكل به ومزقه شر ممزق، ليس في مصر أو العالم العربي
أو الإسلامي فقط، بل في عقر ديار الغرب، حيث فقد الفكر العلماني زهوه
وجبروته وأصبحت أفكار المسيري بندا رئيسيا في أي حوار حول العلمانية، وتحول
الفلاسفة الغربيين العلمانيون من عرش الكبرياء والزهو إلى هاوية الاعتذار
ومستنقع التبرير . حدث هذا في عقر ديار العلمانية حيث الآلهة التي يعبدها
علمانيونا المحليون.. فبهت الذي كفر!
يصل
المسيري إلى استنتاج قاطع أصبح هو نبراس حياته ، إنه يصفع العلمانيين
بتعال وقوة ولا نقول ازدراء مؤكدا أن العلمانية الشاملة تشكل تهديداً
خطيراً ليس للإيمان الديني فقط بل للإنسانية كلها،
وهو يرى أنها وصلت لمنتهاها، لأن خطرها في واقع الأمر يتهدد الأيديولوجيات
العلمانية أكثر من الأيديولوجيات الإيمانية لأن الأيديولوجيات الإيمانية
الحقيقية تؤمن بأن هناك منظومات قيمية خارج الإنسان يمكن الرجوع إليها
واستئناف الأحكام فيها، بعكس العلمانية التي ترى أن الإنسان مرجعية ذاته.
لم
يكتفِ المسيري بنتاجه الغني في نقد الصهيونية بل هو أيضا ناقد أدبي مميز
في حقل الثقافة المقارنة، وهو صاحب مؤلفات بالعشرات في الفلسفة والاجتماع
والأدب بشتى فروعه، مما يدل على عمق معرفته بالثقافة الغربية والأميركية
على نحو خاص، ولقد كانت عبقرية المسيري وموسوعيته وسيطرته على العلوم
الإنسانية بمثابة دليل لا يدحض، كانت كالحمض النووي في إثبات السفاح
والاغتصاب والدنس، وكان يكشف بما لا يدع مجالا للشك، أن ما تحمله أدمغة
العلمانيين في بلادنا ليس منا.. بل هو حمل مدنس ومخيف، وهو حمل من الأعداء
على حد تعبير مظفر النواب. كانت أدلته لا تدحض ولذلك لجئوا إلى مدحه تقية
وإلى تجاهله لمحاصرة تأثيره.
وربما كانت تجربة التأليف المشترك في كتاب حوارات لقرن جديد- العلمانية تحت المجهر- دار الفكر المعاصر- دمشق سوريا-
والذي اشترك في تأليفه الدكتور عزيز العظمة –الأستاذ بالجامعة الأمريكية
في بيروت وفي عديد من الجامعات العربية والأجنبية ورئيس سابق لمنظمة حقوق
الإنسان: فرع بريطانيا.. وله عديد من المؤلفات والدراسات باللغتين العربية
والإنجليزية .. وهو في نظر العلمانيين قلعة شامخة يحتمون بها.. لكنه تحول
أمام المسيري إلى طفل غرير مثير للسخرية والرثاء، ولذلك لم يكرر العلمانيون
التجربة أبدا..بل قرروا ألا يواجهوه على الإطلاق.
نأتي
لإجابة السؤال الثالث: وفي الحقيقة أن الفصل بين السؤال الثاني والثالث هو
فصل تعسفي، ذلك أن العلمانيين في بلادنا ليسوا سوي جزء من المنظومة
الغربية الصليبية الصهيونية الملحدة، وإجابة السؤال الثاني تصلح كلها
كإجابة على السؤال الثالث.
بيد أنه من الجدير أن نذكر أن جزءا من عبقرية المسيري أنه فضح جذور الفكر الصهيوني كما فضح العلمانية.
حيث رأى أن الفكر الصهيوني ليس يهودياً بل هو استعماري يستخدم الدين كأداة
للتبرير تماماً كما حدث في الحروب الصليبية ، فالصهيونية هي أحد إفرازات
الفكر الاستعماري الغربي، الذي قام على الفلسفات المادية التي كانت ذروتها
نظرية فوكوياما عن نهاية التاريخ.
لقد
سبق للمسيري أن أصدر كتاباً عام ١٩٧٢ اعتبر فيه أن نظرية نهاية التاريخ
ليست إلا فكرة فاشية ، لقد دحض الفكرة قبل أن يكتشفها فوكاياما بربع قرن!
الشرفاء في الغرب لم يتجاهلوا فكر عبد الوهاب المسيري..
لكن
ما أقل الشرفاء ، يذكر المسيري ذلك بمرارة عذبة ساخرة فيقول: وللأسف فإن
المؤسسة العلمية العلمانية تتجاهل أعمالي وكتاباتي تماماً، فعلى سبيل
المثال أحد كتبي وهو (اللغة والمجاز) نفد من الأسواق في تسعة شهور، وجاري
طباعته للمرة الثانية وكتبت عنه الصحافة، ولكن لم يحظ بكتابات أكاديمية
رصينة حوله تؤدي للتراكم المعرفي المطلوب للنهوض الحضاري المنشود.
لكن
المؤسسة العلمية العلمانية آثرت الصمت تجاه كتبي تماماً، كما فعل
الإسرائيليون الذين لا يشيرون لأعمالي لا من قريب ولا من بعيد، على الرغم
من أنني تعمدت أن أنشر كتاب "المفاهيم الأساسية " باللغة الإنجليزية في
جريدة (الأهرام ويكلي) إلا أنهم لزموا الصمت تماماً.
والحقيقة
أن المسيري كان واحدا من قلائل تحطمت علي صلابته أساطير وأكاذيب الغرب،
صالحه وطالحه ، فأولئك الشرفاء اكتشفوا كم أن المنطق الذي يستندون إليه
متداع وهش وكيف كان المسيري يكتسحهم اكتساحا، أما الجانب الآخر، جانب
الأباطيل والكذب والكتاب المرخص لهم بالكتابة من أجهزة المخابرات أو
الشركات عابرة القارات فقد كانوا يعرفون منذ البداية أن فكرهم مزيف، وأنه
مصنوع بالكذب من أجل خداع العالم، وأن خطر واحدا كالمسيري عليهم كخطر النور
على الظلام، إنه يبدده.
ولما
كانوا يملكون كل وسائل الدعاية والإعلام والإعلان والنشر على مستوى العالم
فقد تكفلوا بمحاصرة المسيري، وإن كان حصارهم لم ينجح تماما، ويعود السبب
في عدم نجاحه لعبقرية المسيري من ناحية ومن ناحية أخرى إلى إشادتهم به
أثناء مرحلته الماركسية حينما تصوروا أنه عون لهم على الإيمان, ولكن رغم
الماضي اليساري، ولأن المسيري كان يملك ضميرا حيا وعقلا نافذا ولم يكن
قابلا للإيجار، فقد انتقل من المرحلة الماركسية إلى الإسلام في وسط كوكبة
قليلة من اليساريين لو وضع أي واحد منهم في كفة ميزان لرجح الماركسيين
جميعا.. مجموعة انتقلت من الماركسية إلى الإسلام، كانوا خيارا في الماركسية
– وعجيب أن يكون بين الماركسيين خيار- إلى خيار في الإسلام.. مجموعة صغيرة
لكن كل رجل منهم بأمة.. مجموعة على رأسها المسيري والمستشار طارق البشري
والراحل العظيم عادل حسين والمفكر الكبير الدكتور محمد عمارة.. مجموعة من
النجوم تقطعت قلوب اليساريين حسرات على انتقالهم من ضيق الكفر إلى رحابة
الإيمان!.
القلة الشريفة من الغربيين الذين لم يقاطعوا عبد الوهاب المسيري ولم يحاولوا التعتيم عليه فسروا ذلك بطريقة مدهشة حيث قالوا :
إن المسيري رغم أنه كان يهدم فكرهم إلا أنه بدا غير متصادم معهم، بل بدا
أنه يتعذب معهم ومن أجلهم كي ينقذهم وينقذ البشرية جميعا من مصير أسود
تدفعها العلمانية والحداثة إليه، وكان المدهش أمرين، أولهما أنه بعد أن هدم
الفلسفة الغربية بمنهج الفلسفة الغربية ذاتها لم يكتف بذلك، بل برهن على
أنه لا نجاة للإنسان إلا بالإيمان، والإيمان ليس إلا الإسلام.
الأمر
الثاني، أن بعضا منهم ينظر إلى المسيري نظرة تقديس تشبه على وجه من الوجوه
نظرتهم إلى نبي الله المسيح عيسى بن مريم عليه السلام.. كمخلّص!.
لقد
اخترق المسيري محاولات تهميشه والتعتيم عليه بعد أن أدرك العامة قبل
الخاصة عبقريته وشموله ودأبه المذهل والتنوع الفذ في إنتاجه فتزايد
الاهتمام بأعماله فصدرت عدة دراسات عن أعماله،
من أهمها: في عالم عبد الوهاب المسيري: كتاب حواري من جزأين (2004)، وكتاب
تكريمي بعنوان الأستاذ الدكتور عبد الوهاب المسيري في عيون أصدقائه
ونقاده، ضمن سلسلة "علماء مكرمون" لدار الفكر بسوريا يضم أعمال مؤتمر
"المسيري: الرؤية والمنهج" الذي عُقد في المجلس الأعلى للثقافة في فبراير
2007. كما ظهر عدد خاص من مجلة أوراق فلسفية (2008) يضم دراسات العديد من
العلماء والباحثين العرب في الجوانب المتعددة للدكتور عبد الوهاب المسيري.
عندما
سمعت بخبر موت المسيري دهمني شعوران طاغيان متناقضان: شعور بألم الفقد
الموجع يعتصر القلب، وشعور بالفرحة الطاغية والفرج فالدنيا سجن لهذا الرجل
وأمثاله، وها قد آن أوان الإفراج والفرج، لكن هذه الفرحة سرعان ما بهتت
وخفتت، عندما تذكرت أن التجريد المذهل الذي وصل بالإسلام وفي الإسلام إلى
قمة النضج البشري في التوحيد، ذلك التجريد المخيف المرعب، يجعلنا لا نأمن
مكر ربنا سبحانه حتى ولو كانت إحدى قدمي عبد الوهاب المسيري في الجنة..
لا إله إلا أنت سبحانك لا إله سواك..
هل
أشعر بالندم لأنني لم أقابل المسيري؟! إنني عزوف دائما عن لقاء من أحب،
ولعل هذا الشعور يحمل أحد التفسيرات البسيطة لفكرة التجاوز عند عبد الوهاب
المسيري،
ذلك أنه بالنسبة لي ليس ذلك الكيان البيولوجي تماما كما أن أي إنسان ليس
هو الملابس التي يرتديها ، فالمسيري ليس لحمه ودمه وعظامه وإنما كتبه
وفلسفته وأدبه وأشعاره، ولقد كنت أعيش معها دائما، وعشت قبل ذلك على تصور
أظن أنه خاطئ، أن التعرف على الكائن البيولوجي- الجسد- قد ينتقص من الصورة
الذهنية، فالصورة الذهنية تتجاوز بما لا يقاس الشكل البشري.
يا
لحرقة ألم أنني لم أر- ولن أستطيع أن أرى- سيد قطب ومحمود شاكر وعبد
الوهاب المسيري ، أمسكت بطبعة دار الشروق من الجذور والبذور والثمر،
وهي طبعة فاخرة بالنسبة لطبعة وزارة الثقافة، لكن الثانية تباع بثلاثة
جنيهات وطبعة دار الشروق بخمسة وستين جنيها، ورغم أن دار الشروق عزيزة
علينا إلا أن الطبعة مليئة بالأخطاء في أرقام الصفحات وبها صفحات ناقصة.
رحت أتأمل الصفحات الأخيرة حيث صور الطفل والتلميذ والشاب والعريس والأستاذ
والكهل والشيخ والمجاهد والمريض عبد الوهاب المسيري ، كنت أرقب الكبد
والكمد والأمانة التي عجزت عن حملها السماوات والأرض..فحملناها.. هل كنت
تعلم أيها الراحل أنك تلقى في رحلتك هذه الأهوال كلها.
ثمة
صورة اخترقت قلبي.. اغرورقت عيناي بالدموع.. ففي عام 1995 كان المسيري في
جنوب أفريقيا.. وكان يجلس القرفصاء على حجر أمام بركة ضحلة من الماء..
كان يتوضأ..
يا أللــــــه
هذه الصورة تختزل الأمر كله..
ترى.. أسأل والله أعلم: كم يكون ثقل تلك الصورة في الميزان يوم الحساب..
أمسكت دموعي..
فالمسيري قيمة فكرية هائلة ينبغي أن نودعها بالفكر لا بالدموع..
لكن
هذه الدموع سرعان ما غالبتني وأنأ أقرأ لتلميذ من تلاميذه يصف نفسه بأنه
أصغر من أصغر أبنائه إذ يصف كيف احتفى به المسيري وتبناه على غير سابق
معرفة، يقول أحمد عبد الرحيم عن المسيري:
"ذلك البحر الفياض.. الذي علمنا -بفكره وسلوكه- كيف يذوب جليد اليأس الذي
يخلق الإحساس بالعدمية، وكيف تولد براعم الأمل في النفوس، فينهض الناس..
يحملون أقلامهم .. و سيوفهم أيضا..إذا لزم الأمر- ليُعلوا كلمة الحق..
ويحولوا المعرفة إلى فضيلة، والإدراك إلى سبيل للكرامة.. اسمح لي أن أقول
لك.. ما أنت وهؤلاء الذين جمعهم في هذا المجلد التقدير والحب لك.. مسحورين
بهالة البراءة المصقولة والمكثفة التي تتحرك من خلالها، فأصبحوا جزءا من
حياتك، مثلما أصبحت جزءا من حيواتهم، تتولى رعايتهم ضمن شبكتك الإنسانية
الممتدة عابرة القارات، وتمارس مع اليتامى الكونيين من أبنائك و أصدقائك
تلك الأبوة غير البيولوجية الفريدة.. ما أنت وهؤلاء إلا: كالبحر يمطره
السحاب وما لَه... فضل عليه..لأنه من مائه..
لم يقل أحمد عبد الرحيم ذلك في حفل تأبين بل في حفل تكريم قبل ثمانية أعوام..
يا بني المسكين..
قلت هذا في تكريمه.. فماذا تقول في تأبينه..
وانهمرت دموعي!..
نعود
إلى جملة وردت في صدر هذا المقال : لكأنما خلقه الله في هذه الدنيا كي
يجعله شاهدا على العالم في إيصال رسالة الله إليهم وإقامة الحجة عليهم..
والجملة
ليست لنا.. وإنما استعرناها من آخر من يمكن أن نقرنه بالدكتور عبد الوهاب
المسيري.. فالجملة لإمام مسجد فقير معدم لكنه بلغ في سلم الإنسانية ذروة
عالية.. الجملة للملا محمد عمر الرئيس الشرعي لأفغانستان.. الذي قال: "أنا
أرجو أن يجعلني الله شاهدا على العالم في إيصال رسالة الله إليهم وإقامة
الحجة عليهم.." ونظن أن الملا عمر يمثل الفطرة الإنسانية في أعلى درجات
توهجها ونقائها حتى لو خلت من الثقافة بمفهومها العصري.. أما الدكتور عبد
الوهاب المسيري فيمثل ذروة سامقة في الثقافة النزيهة والفلسفة المتجردة..
لكنهما يلتقيان في نفس النقطة.. شاهدين على العالم وحجتين علينا..
هنا..
تسمع العين وترى الأذن ويخفق العقل ويفكر الفؤاد ويتضافر عنصرا الإنسان
كجسد وروح في كيان لا يمكن فصمه أو تقسيمه إلا بالقضاء عليه..
فهل هي عبقرية المسيري؟ أم هي في الحقيقة عبقرية الإسلام؟!
المصدر :موقع الدكتور/ محمدعباس