سبعة
أيامٍ مضت على استشهاد محمود عبد الرءوف المبحوح ولم يوراى بعدُ الثرى،
ولم يتلقَ أهله فيه العزاء، ولم يقيموا له في الوطن والشتات بيتاً للعزاء،
فمازال جثمانه مسجىً في مستشفيات دبي، حيث أخضع لعملياتٍ دقيقة من الفحص
والمعاينة والتشريح، ولم يتمكن أحدٌ من أهله من
رؤيته، أو إلقاء نظرةٍ عليه، ومازال الجميع في انتظار نتيجة التشريح، والتي
قد توافق رسمياً أو تخالف ما ذهبنا إليه، ولكن أياً كانت النتيجة فإنها لن
تضعف اليقين لدينا بأنه قتل، وهو ما سنبينه تباعاً، فهو ليس أول
المستهدفين بالقتل، إلا أنه كان أحد أهم المطلوبين، كما لم يكن الوحيد على
قائمة الاغتيالات الإسرائيلية، أو على أجندة اهتمام ومتابعة ومراقبة
وملاحقة بعض الأجهزة الأمنية العربية، التي كانت تنشط بدرجةٍ كبيرة في جمع
المعلومات عنه وعن إخوانه، وقد كانت ترصد تحركاته، وتتابع سفره، وتجمع
المعلومات عن منطقة سكنه، وعن المناطق التي كان يرتادها، أو الجهات التي
كان يزورها، أو الأشخاص القريبين منه، وكانت تراقب وترصد وتتابع سيارته،
وتحاول أن تعرف أين تبيت، وكم تمكث في أي زيارة، وقد رصد بنفسه عشرات
الأشخاص الذين كانوا يلاحقونه، وألقى القبض على بعضهم، وقد اعترفوا
بارتباطهم ببعض الأجهزة الأمنية العربية، وأنهم كانوا يجمعون المعلومات
لصالحها، وأنهم كانوا مكلفين من قبل قيادتهم الأمنية بمتابعة تحركات أبي
الحسن، وتدوين وتسجيل كل شئ يتعلق به، إلا أن الله كان يحميه دوماً من
مؤامراتهم.
وكان
أبو الحسن يدرك أنه متابع وملاحق من قبل الموساد الإسرائيلي، وأنه أصبح
على رأس قائمة المطلوب تصفيتهم، وأنه يسعى للنيل منه وتصفيته،
وأنه لن يدخر جهداً في استهدافه أينما كان إذا ما أتيحت له الفرصة، ولكنه
كان يدرك أن بعض الأجهزة الأمنية العربية كانت تلاحقه، وتقتفي أثره، وتجمع
عنه المعلومات، وتدون كل شئٍ يتعلق به، وهو يعلم أن هذه المعلومات لا تفيد
إلا العدو الإسرائيلي، ولا ينتفع بها غيره، ولا يبحث عنها جهازٌ أمني آخر،
ولكن إسرائيل ما كانت لتنجح وحدها في رصده وجمع المعلومات عنه، ولهذا فقد
احتاط لنفسه، وبالغ في الحيطة والحذر، فلم يكن يعلم أحداً غير قيادته
بتحركاته، ولا بوجهته في السفر، وكان في كل مكانٍ يسافر إليه، يجد من
يساعده في تنقلاته، ويتابعه عن بعد، وكان يشتري تذكرة سفره بنفسه في يوم
سفره، ويحرص على عدم الحجز المسبق، وغالباً ما كان يموه في سفره، ويسافر
إلى غير الوجهة التي يقصدها، ومن هناك يغير خط سير رحلته، وكان يختار
الفندق الذي سيقيم فيه بنفسه، دون مساعدةٍ من أحد، ولم يكن يكرر الإقامة في
ذات الفندق، كما كان يعتاد على تغيير مكان إقامته في السفرة الواحدة، ولم
يكن الشهيد أبو الحسن يأكل شئياً في الفندق، أو في أي مكانٍ لا يثق فيه أو
في أصحابه، بل كان يخرج إلى الأماكن العامة، ويختار عشوائياً مطعماً أو
محلاً لبيع الأطعمة الجاهزة، وكان يشتري كل شئٍ بنفسه، ويحرص على شرب الماء
من زجاجات المياه المعدنية التي كان يشتريها بنفسه، ويتأكد من أنها مغلقة،
وأنها لم تفتح من قبل، رغم أنه كان يشتريها بنفسه، ويستخرجها بنفسه من
البرادات أو من الصندوق..
أما
بالنسبة لإقامته فقد اعتاد على تغيير مكان سكنه، ولم يكن يعلم كثيرين عن
عنوانه، ولم يكن يشارك في الأنشطة العامة، أو المناسبات العامة،
وكان يحرص على عدم الإكثار من الزيارات الاجتماعية، ولم يكن يستخدم هاتفه
النقال إلا نادراً، وكان يعتمد في اتصالاته على بطاقات الاتصال العامة، كما
لم يكن يجيب على الأرقام المجهولة التي لا يعرفها، وخلال تنقله كان يراقب
سيارته جيداً، ولا يستقلها قبل أن يتأكد من سلامتها، ومن أن العلامات
الأمنية التي كان يتركها في السيارة أو حولها، لتشير أنها لم تتعرض لأذى،
ولم يقترب منها أو يمسها أحد، فضلاً عن أنها كانت تخضع للمراقبة طوال فترات
توقفها، وكان طوال مسيره في سيارته يتابع السيارات من حوله، وكانت عيناه
تتابعان السيارات التي تسير أمامه أو خلفه أو تقترب منه، وقد كان حسه
الأمني يقظاً إلى درجةٍ كبيرة، ولم يكن يترك شيئاً للمصادفات، كما لم تكن
لديه حسابات لحسن النية، أو سلامة المقصد، وعلى الرغم من كل هذه الإجراءات،
وهذه الحيطة الأمنية البالغة، فقد استهدفوه بغيرهم فقتلوه ونالوا منه.
كان
أبو الحسن يدرك أنه مستهدف، وأن يد الغدر ستنال منه، وأن الطريق الذي سلكه
ستنتهي به إلى الشهادة، وأن العدو ومن يعمل له لن يتركه وشأنه، فالعدو
يدرك عظم الدور الذي يقوم به، وخطورة المهمة التي
انبرى للقيام بها، ويدرك العدو أيضاً مدى جسارته وجرأته، وأنه دائماً على
استعدادٍ للتحدي والمواجهة، ويدرك أبو الحسن نفسه أن الراية التي حملها،
والأمانة التي يعكف على أداءها أمانة عظيمة، وأن الذين سبقوه في حملها قد
سقطوا شهداء، وقد لاحقهم العدو حتى نال منهم، وقد ظن أنه بقتلهم سيقضي على
روح المقاومة، وسيوقف سيل السلاح، وسيحول دون الدعم والعون والإسناد ..
وقد
سبقه إلى الشهادة رفيق دربه الأول، وشريكه في جهاده، الشهيد عز الدين
الشيخ خليل، وكانا قد عملا معاً لسنوات، وأديا الكثير من المهام، وتحديا
معاً العديد من الصعاب، وحققا معاً نقلةً نوعية في استراتيجية المواجهة
والصمود ضد العدو الإسرائيلي، الذي كان يرى في عز الدين الشيخ خليل خطورةً
توازي الخطورة التي تركها الشهيد عز الدين القسام ومازال، فدربا مقاتلين
جدد، ونقلا مجاهدين أكفاء، وسلحا المقاومة بأنواع الأسلحة المختلفة، وعملا
معاً بصمتٍ لسنوات طويلة، ولكن أبا الحسن وبعضاً من إخوانه، حملوا بصدقٍ
وإيمان راية عز الدين، وتابعوا من بعده المسيرة، وساروا على ذات النهج، غير
مبالين بما ينتظرهم على الطريق، بل كان وإياهم يتطلعون إلى اليوم الذي
يرتقون فيه إلى العلى شهداءً.
أراد
أبو الحسن أن يجعل من المقاومة الفلسطينية جوزةً لا تنكسر، وإرادةً لا
تتحطم، وعزماً لا يلين، وقد كان يتطلع إلى مقاومة حزب الله، وقد أعجب
بقتالهم، وارتبط بكثيرٍ من قادتهم، وكان أول من
ينتابه الحزن إذا نال العدو من أحدهم، ولكن الحزن ما كان يقعده أو يصيبه
بالعجز، بل كان يدفعه نحو مزيدٍ من العزم والجلد والإصرار، وإن كان يرى في
مقاومة حزب الله نموذجاً ومثالاً، فإنه كان يرى في المقاومين الفلسطينيين
عزماً أشد، وقوةً أكبر، وجرأة أكثر، فالمقاومة الفلسطينية تفتقر إلى العمق
وإلى النصير، وهي تعاني من القيد والسجن والحصار، والعدو يلاحقها في كل
مكانٍ، ويضيق عليها سبل العمل ..
ولكنها
رغم كل ذلك قادرة على النيل من العدو، وإلحاق خسائر في صفوفه، ويوم أن سقط
عماد مغنية شهيداً بكى أبو الحسن، وذرفت عيناه بحزن، فقد كان يعرف عظم
مكانة ودور هذا الرجل، والأثر الكبير الذي تركه في مقاومة حزب الله، والألم
الكبير الذي ألحقه بالعدو الإسرائيلي وقادته، ولكنه كان يؤمن أن الشهادة
حلم المجاهدين، وأمل المقاومين، وأن الله هو الذي يختار الشهداء من بيننا،
وأنه سبحانه ينتقي ويختار الشهداء من خيرة عباده.
أبو
الحسن المبحوح، المقاتل الشرس، والمقاوم العنيد، والوطني الصادق،
والفلسطيني الأصيل، المسكون بالمقاومة، المؤمن بالنصر، والحالم بالعودة،
رغم قوته فقد كان بكاءً، شديد التأثر، رقيق الحس،
مرهف المشاعر، يحزن لما يلقى أهله وشعبه، ويبكي لبكاء الأطفال، وصراخ
النساء، ويحزن على رحيل الأحبة والشهداء، فيقسم عند كل اعتداء أن ينتقم،
ويكز على أسنانه، ويضرب بقوةٍ بقبضةِ يده، أن دم الشهداء لن يذهب هدراً،
وأن حلم إسرائيل بالأمن لن يدوم، وكما أبكى العدو أمهاتنا، فإن اليوم الذي
تبكي فيه نساؤه قادمٌ لا محالة، وكان الحزن دوماً يملأ قلبه، ويطغى على
ملامح وجهه، عندما يتذكر الأسرى الفلسطينيين المعتقلين في سجون العدو
الإسرائيلي، وفيهم رفاقه الذين شاركوه مقاومته في أيامه الأولى، ولكن أمل
تحريرهم في نفسه لم يمت، ولم يتسرب اليأس إلى قلبه أن محمد الشراتحة وروحي
مشتهى وآلاف المعتقلين الآخرين، يوماً ما سيرون الحرية، وسيعانقون أعزةً
أحراراً من جديد شمس فلسطين، وكان يعمل بجدِ لمثل هذا اليوم، فيا أبا الحسن
إن غبت عنا اليوم فإن شمس الحرية غداً ستشرق على إخوانك جميعاً، وهم من
يقولُ أنك قتلت ولم تمت، وغداً سنرى ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب وباحث فلسطيني
المصدر : موقع التاريخ